مفهوم البيّنة في مجال النسب
الفرع الأول: مفهوم البّينة في مجال النسب
إنطلاقا مما سبق يتضح أن للبيّنة معنيان:
أولا: البيّنة بمعنى الدليل: و هي الحجّة أو البرهان و هو تعريف نظري مناسب للبيّنة لأنها ترشد إلى الصواب و الإقناع، و الدليل على ذلك قوله تعالى: "...لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين منفكّين حتى تأتيهم البينة..." [البيّنة آية 01].
و قد قال إبن القيم: "إن البيّنة لم تأت قط في القرآن مرادا بها الشاهدان، و إنما أتت مراد بها الحجّة و الدليل و كذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم: "البيّنة على المدّعي" و لا شكّ أن بعض القرائن أقوى بكثير من الشهادة، لأن الشهادة يمكن أن يتطرق إليها الوهم و الكذب ...".
ثانيا: البينة بمفهوم الشهادة: و يقصد بها قيام شخص من غير خصوم الدعوى بالإخبار أمام القضاء عمّا أدركه بحاسة من حواسه، كالسمع أو البصر بشأن الواقعة المتنازع عليها، أي أن الشاهد يخبر بواقعة صدرت من غيره و يترتب عنها حق لغيره(1)و قد وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: "و إستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل و إمرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ...".
و قد أورد المشرع الجزائري البيّنة في المادة 40 من قانون الأسرة و إعتبرها إحدى طرق الإثبات التي يمكن من خلالها للشخص أن يأتي بالدليل القاطع على أن المولود هو إبنه الصّلبي. و لكن بالرجوع إلى التعديل الأخير في نص المادة 40 بموجب الأمر 05/02 حيث إستحدث المشرع في الفقرة الثانية الطرق العلمية و إعتبرها طريقا مستقلا عن البيّنة في مجال إثبات النسب مما يفهم منه أن المشرع يقصد بالبيّنة المعنى الخاص، أي شهادة الشهود.
و بالرجوع إلى الإجتهاد القضائي خصوصا إلى القرار الصادر بتاريخ: 15/06/1999 تحت رقم: 222674(2)و الذي رفض إعتماد فحص الدم كدليل مثبت للنسب مما يؤكد أن المشرع إعتمد البينة بمفهوم الشهادة و ليس المعنى الذي يشمل أي دليل يوصل إلى الحقيقة.
(1)- محاضرات الأستاذ الدكتور ملزي عبد الرحمان – الإثبات في المواد المدنية – ألقيت على الطلبة القضاة – الدفعة 16 ص 33.
(2)- الإجتهاد القضائي لغرفة الأحوال الشخصية – عدد خاص 2001 ص 88.
و على هذا الأساس يثبت النسب بالبينة الشرعية التي يقيمها المدعي، فمثلا لو إدعى شخص على آخر أنّه إبنه أو أنه عمّه و أنكر المدعى عليه هذا الحق(1) فلجأ المدعي إلى إثبات دعواه بالبيّنة قبلت منه دعواه، و حكم له بثبوت النسب و بالتالي تترتب على ذلك كل الآثار الشرعية لهذا النسب و إذا كانت دعوى النسب بالأبوّة أو البنّوة حال حياة الأب أو الإبن المدعى عليه تسمع الدعوى و لو كانت مجردة من أي حق آخر، كالإرث و النفقة لأن النسب في هذه الحالة يصح أن يقصد لذاته و إن كانت دعوى النسب بما ذكر، بعد وفاة الإبن أو الأب المدعي الإنتساب إليه أو كانت دعوى النسب بغير البنوّة و الأبوّة كالأخوّة و العمومة أي سواء كانت الدعوى حال حياة المدعي الإنتساب إليه أو بعد وفاته، فإن الدعوى لا تسمع شرعا إلا في ضمن دعوى لحق آخر لأن النسب حينئذ غير مقصود لذاته بالدعوى و إنما المقصود بالذات هو ما يترتب عليه من حقوق كالنفقة و الإرث، فيجب على المدعي بالحق المقصود له بالذات و في ضمنه النسب حتى إذا ما ثبت الحق المدعى قصدا ثبت النسب ضمنا.
أما فيما يخص نصاب البيّنة فقد إختلف الفقهاء فيها على عدة أقوال إلّا أن الرأي الأرجح هو قول أهل الحنفية الذين إشترطوا شهادة رجلين عدلين أو شهادة رجل و إمرأتين لقوله تعالى:"... فإن لم يكونا رجلين فرجل و إمرأتان ..." [البقرة الآية 282 ].
أما إذا إختلف الزوج مع زوجته في الولادة أو المولود، بأن إدّعت الولادة في وقت معين و أنكر هو حدوثها أو يكون الولد هو نفسه الذي ولدته(2)، فهل يمكن للزوجة أن تثبت ما أنكره زوجها من أصل الولادة أو تعيين المولود بشهادة المرأة التي حضرت الولادة فقط؟
بما أن الولادة واقعة مادية و لا يعاينها في غالب أحوالها إلا القابلات، و يقل أن يحضر الرجال أو عدد من النساء الولادة و على هذا الأساس فإنه يكتفي بشهادة القابلة أو شهادة الطبيب الذي باشر ولادتها. و هو ما ذهب إليه الحنابلة و الحنفية أما المالكية فإشترطوا شهادة أربعة نساء ليكون نصاب الشهادة كاملا، و في القانون الجزائري فقد نصت المادة 62 من قانون الحالة المدنية الصادر بموجب الأمر رقم: 70/20 المؤرخ في: 19/02/1970 على ما يلي: "يصرح بولادة الطفل الأب أو الأم و إلّا فالأطباء و القابلات أو أي شخص آخر حضر الولادة و عندما تكون الأم ولدت خارج مسكنها، فالشخص الذي ولدت الأم عنده". و ما تجدر الإشارة إليه أنه إذا أثبتت الولادة بهذا الطريق، نسب الولد إلى الزوج و ذلك بتسجيله في سجلات الحالة المدنية، بعد أن يحمل إسم و لقب والده
شاركنا بتعليقك...