لا خلاف بين علماء المذاهب الإسلامية في أنَّ باب الاجتهاد غير المطلق مفتوح لمن أراده ، وإن وقع بينهم فيه اختلاف فإنَّما هو في تسميته اجتهاداً وفي ترتيب الأثر عليه .
والاختلاف بينهم في مسألة فتح باب الاجتهاد وغلقه أو سده أو قفله ــ كما عبر بعضهم ــ ، هو في الاجتهاد المطلق أو غير المنتسب ، وهو: ما كان اجتهاداً في مناهج الاستنباط ثم الاستنباط في ضوئها ، من غير تقيد بمنهج مجتهد آخر ، أو قاعدة قعّدها ، أو رأي أفتى به .
فذهب بعض أهل الجمهور إلى سدّ باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع الهجري، وتقييد المفتين والقضاة بمناهج وأحكام الأئمة الأربعة .
وذهب بعض آخر منهم ، والإمامية بعامة ، إلى فتح باب الاجتهاد وإبقائه مفتوحاً ، ما دامت الأحكام الشرعية نافذة وغير قطعيّة ، وما دام في المعمورة مكلفون .
والقائلون بفتح باب الاجتهاد لا يرون قولهم هذا محتاجاً إلى الاستدلال عليه أكثر من الاستدلال على أصل مشروعيّته ، بل قيام الإجماع على وجوبه الكفائي ، خصوصاً وأنَّ الصحابة والتابعون وتابعو التابعين ومن تلاهم قد دأبوا على الاجتهاد في الأحكام الشرعية ، دون إنكار منكر وخلاف مخالف ، حتى تعالت بعض الأصوات تنادي بغلق باب الاجتهاد وقفله ، في عصور متأخرة عن صدر الإسلام بكثير .
لهذا فالقائلون باستمرار فتحه واستدامته يتمسكون بالأدلة نفسها التي أثبتت وجوبه إثباتاً مطلقاً ، دون تقييده بعصر دون عصر ، أو زمان دون غيره، أو أناس دون آخرين ، ممن توفّرت فيهم شروطه .
وعلى القائلين بالمنع منه وسدّ بابه أن يأتوا بحجّة ، تُقيّد هذا الإطلاق ــ الثابت بالإجماع بل بالضرورة ــ بزمان ، أو مكان ، أو جماعة معينة ، أو قيد آخر غير هذه القيود .
ومما هو معلوم أنَّ مجال الاجتهاد هو استنباط الأحكام الشرعية الفرعية غير القطعية ، مما وقع فيها الخلاف ، سواء أكانت أحكاماً تكليفية ، أم أحكاماً وضعية .
فهذه الأحكام بقسميها موضع للاختلاف بين الفقهاء ، وحينئذ تكون مهمّة الاجتهاد النظر في أدلة المسألة ومبانيها ومداركها ؛ لاستنباط ما يراه الفقيه صحيحاً من أحكامها .
و إرادة كون الإسلام خالداً فاعلاً مؤثراً في كل الأزمنة في حياة الإنسان، يلزم منه حينئذ أن لا يمكن لعطائه الفكري وثرائه المعرفي التوقف عند حد معين، و البشرية تعيش تجديداً وتجدداً فكرياً باتساع مداركها . وما دامت دلالات النص لا تتوقف عند مستوى واحد من الفهم، بل هي تتعدد و تتنوع باختلاف الأزمان، والأشخاص ، ومستويات الفهم والإدراك، وإنَّ للنص قابلية للانفتاح على قراءات مختلفة تتجدد بتجدد أفكار البشر واتساع مداركهم المعرفية، وإنَّ التجديد الفكري في الإسلام ليس نسخاً أو تأسيساً لفكر جديد، أو مجرد إحياء لفكر قديم، بل هو عملية تفاعل حيوي داخل فكر قائم ؛ لإعادة اكتشافه وتطويره وفقاً للفهم الزمني الذي يعي حاجات العصر مع الالتزام بجميع الأسس والثوابت .
هذا كله و لربما غيره كثير حدا ببعض الجهود العلمية ومنها مؤتمر ( الاجتهاد القضائي بين الفكر الديني والعلماني ) المزمع عقده ومشاركتي فيه قريبا في الجامعة اللبنانية إلى بحث ضوابطه وآلياته وحدوده ومدى القدرة على توسعة أو تضييق مساحة الاجتهاد المعاصر .
شاركنا بتعليقك...