ابراء
absolution - absolution
انقضاء الالتزام
انقضاء الالتزام
الإبراء
أحمد الشيخ قاسم
حدد القانون المدني طرق انقضاء الالتزام بالوفاء أو بما يعادل الوفاء، أو بالإبراء أو باستحالة التنفيذ، أو بالسقوط بالتقادم.
فالأصل أن يتم الانقضاء بوفاء الدين بتنفيذ التزامه (م322).
والشيء المميز هو أن المشرع نظم عملية الإبراء وأخضعها لأحكام قانونية قضت:
- بأن تسرى على الإبراء الأحكام الموضوعية التي تسري على كل تبرع.
- وبأن لا يشترط بالإبراء شكل خاص، ولو وقع على التزام يشترط لقيامه شكل فرضه القانون أو اتفق عليه المتعاقدان (م370).
أولاً: ماهية الإبراء:
أجاز القانون المدني انقضاء الالتزام من دون الوفاء وبطريق إبراء الدائن مدينه مختاراً، ويتم الإبراء متى وصل إلى علم المدين، ويرتد برده (م369).
والإبراء في حقيقته تصرف من جانب الدائن وحده يتنازل فيه عن حقه المترتب بذمة مدينه من دون مقابل، لذلك عدّه القانون (م370) ومحكمة النقض السورية تصرفاً قانونياً تبرعياً ورضائياً، وأضافت محكمة النقض المصرية أن الإبراء ينشئ مركزاً قانونياً ثابتاً لا يتقادم، وللمتنازل له وفي كل وقت طلب إعمال الآثار القانونية لهذا التنازل وإبطال أي تصرف للدائن يخالف ذلك.
ولأهمية التصرف اشترط بالدائن أن يتمتع «بأهلية التبرع» وقت صدور الإبراء، وإن كان يرتد برد المدين.
والإبراء - ككل تصرف قانوني - له محل وسبب. ومحل الإبراء هو الالتزام الذي يبرئ الدائن منه المدين، ويصح أن يقع الإبراء على أي التزام ما لم يكن مخالفاً للنظام العام.
وأما سببه فهو الباعث إلى الإبراء، فإذا كان الباعث مشروعاً أو له دافع معين مشروع صح الإبراء، وإلا كان باطلاً، وإذا تخلف الباعث المعين سقط الإبراء. ومن المقرر قانوناً أن لكل التزام سبباً مشروعاً (م137) مدني، وكل من يدعي عكس ذلك أن يثبته.
وباعث الإبراء ليس له وجود في القانون الألماني، إذ عدّ الإبراء تصرفاً مجرداً ونافذاً لا يتأثر بالباعث، فإذا أبرأ الدائن مدينه انقضى الدين وزالت التأمينات التي كانت تكفله. وإذا تبين بعد ذلك أن الباعث على الإبراء قد تخلف لم يسقط الإبراء، ولم تعد التأمينات، وإنما يرجع الدائن على المدين بدعوى الإثراء بلا سبب.
ويجوز الإبراء في الالتزام الطبيعي، فإذا أوفى المدين التزامه بعد هذا الإبراء جاز له استرداده. وإذا كان الإبراء يصدر برضاء الدائن وإرادته فإن ذلك منوط بحقوقه أو بموجب تفويض خاص عن موكله، ولا يمتد إلى حقوق الولاية والنسب ونحو ذلك من الحقوق التي تتعلق بالنظام العام.
ثانياً: طبيعة الإبراء:
الإبراء تصرف قانوني يصدر بإرادة منفردة من جانب الدائن، وبصورة رضائية، وهو يأخذ شكل التبرع ولا يحتاج إلى شكل خاص، ولو وقع على التزام يشترط لقيامه توافر شكل فرضه القانون أو اتفق عليه المتعاقدان (م370/2) مدني سوري.
وقد تبنى القانون المقارن نظرية وجوب صدور الإبراء (باتفاق الطرفين)، وبمقتضاه يجب توافر الإرادة لدى الدائن والمدين، فالإيجاب يصدر من الدائن والقبول من المدين، ويتم الإبراء في مجلس العقد طبقاً للقواعد العامة (م92 مدني).
إلا أن تعليق القانون المقارن نفاذ الإبراء على وجود اتفاق الطرفين يعطل إرادة الدائن بالإبراء والتنازل عن حقوقه تجاه مدينه.
ونتيجة ذلك تبنى القانون السوري مفهوم الإبراء من جانب الدائن، وأن يكون نافذاً بعد وصول العلم للمدين ما لم يرتد برده (م369) مدني خلافاً لمفهوم نفاذ الإبراء باتفاق الطرفين.
والطابع القانوني لتصرف الإبراء هو طابع تبرعي (م370)؛ لأن الإبراء يعدّ «هبة غير مباشرة» لا يشترط في انعقادها الرسمية التي تشترط في «الهبات المباشرة» (م456) منه، وهذا صحيح، ولو وقع الإبراء على التزام يشترط لقيامه توافر شكل فرضه القانون أو اتفق عليه المتعاقدان (م370) كعقد الهبة الرسمي (م456).
والفارق بين الفكرتين هو أن الإبراء بإرادة الدائن يصدر برضائه واختياره ولهذا اشترط القانون أن يتمتع الدائن (بأهلية التبرع)، ويكفي لنفاذه وصول العلم به للمدين ما لم يرده برده، فإذا رده وكان لا يتمتع بأهلية التبرع أيضاً جاز لدائنيه أن يطعنوا برده بالدعوى البولصية لأن الرد زاد في التزاماته إذا عاد الدين بالرد بعد انقضائه.
ويتميز الإبراء من باقي التصرفات القانونية المشابهة، كتجديد الدين والصلح بشأنه بأن للإبراء طابع «تبرع» ولهذا يجب أن تتوافر بالدائن «أهلية التبرع» في حين أن التصرفات المشابهة ليس لها طابع التبرع، وتحتاج إلى «أهلية التصرف»، وإذا كان التجديد يشبه الإبراء من حيث إبراء ذمة المدين من الدين الأصلي، إلا أنه يختلف عنه في حاجته «إلى اتفاق الطرفين» لإنشاء دين جديد محل الدين الأصلي. وأما في الصلح: فالإبراء بالصلح يكون بمقابل، حيث يتنازل الطرفان عن بعض حقوقهما مقابل التسليم لهما بالبعض الآخر.
ويتميز الإبراء من صلح الدائنين مع مدينهم المفلس بأنهم لا يتبرعون بحقوقهم وإنما يتنازلون عن جزء من ديونهم على أمل حصولهم على أكبر حصة ممكنة من حقوقهم، ولا يشترط قبول جميع الدائنين بالصلح بل تكفي أغلبيتهم، خلافاً لحالة الإبراء التي تشترط إجماع الدائنين ورضاءهم مختارين بالتنازل عن كل الدين أو عن جزء منه، ويخلف الصلح مع المدين المفلس التزاماً طبيعياً في حين لا يخلف الإبراء مثل هذا الالتزام.
ثالثاً: شروط الإبراء:
للتحقق من صحة الإبراء، لابد من بحث الشروط التالية:
1- الشروط الشكلية للإبراء:
لم يشترط القانون المدني شكلاً معيناً أو خاصاً لوقوع الإبراء (م369) ولو وقع على التزام يشترط لقيامه شكل فرضه القانون أو اتفق عليه المتعاقدان.
وكل ما قضى به هو أن تسري عليه الأحكام الموضوعية التي تسري على كل تبرع (م370). فالإبراء تصرف قانوني رضائي يصدر بإرادة الدائن من دون أن يحتاج إلى إفراغ هذه الإرادة في شكل خاص أو ورقة رسمية.
والسؤال المطروح في هذا الخصوص هو هل يجوز التوصية بالإبراء أو التصرف بالإبراء في مرض الموت وإظهار ذلك في شكل خاص؟
فإذا أوصى الدائن بإبراء مدينه - وهو من الغير - فيشترط في الموصي أن يكون (أهلاً للتبرع) قانوناً. فتسرى على التصرف أحكام الرد والوصية شكلاً وموضوعاً، ويجب إفراغها بالشكل القانوني الذي يجيز فيه انعقاد الوصية قانوناً، ولا ينفذ إلا في ثلث التركة، وفي هذه الحالة يجوز للموصي الرجوع فيه قبل موته، ويسقط إذا مات الموصى له قبل موت الموصي.
وإذا صدر الإبراء وكان الدائن في مرض الموت فلا يشترط فيه أن يكون في شكل الوصية، فهو تصرف مضاف إلى ما بعد الموت، وتسري عليه أحكام الوصية من حيث الموضوع أياً كانت التسمية التي تعطى لهذا التصرف (م877) مدني.
2- الشروط الموضوعية للإبراء:
الالتزام يمكن أن ينقضي بالإبراء الصادر من الدائن، وتسري عليه الأحكام الموضوعية التي تسري على التبرع (م370) مدني، فهو إذن تصرف قانوني رضائي وليس بشكلي يأخذ طابع التبرع وينعقد بإرادة الدائن من دون حاجة إلى أن تفرغ هذه الإرادة في ورقة رسمية أو في أي شكل خاص.
طبقاً للقواعد العامة يشترط لصحة الإبراء أن يصدر بإرادة خالية من العيوب، ويكون التعبير عنها صريحاً أو ضمنياً باللفظ والكتابة والإشارة المتداولة عرفاً، وباتخاذ الدائن موقفاً لا يدع مجالاً للشك في حقيقة المقصود (م93)، ولهذا فالإبراء لا يفترض لأنه نزول عن الحق، فعند الشك لا يكون هناك محل لتفسير إرادة الدائن بأنه قصد الإبراء.
وبناء على ذلك يشترط أن تصدر الإرادة من دائن بالغ راشد ذي أهلية كاملة، وخالية من العيوب، غير محجور عليه. والأهلية المطلوبة لصحة التصرف هي (أهلية التبرع) (م370/2 مدني) لأن الإبراء تصرف تبرعي.
وعليه فلا يجوز للقاصر ولا للمحجور عليه إبراء المدين من الدين، كما لا يجوز للولي ولا للوصي ولا للقيم إبراء مدين القاصر أو المحجور عليه من الدين؛ لأنهم لا يملكون أهلية التبرع في مال محجوريهم، كما لا يجوز لهم القيام بذلك ولو بإذن المحكمة؛ لأن المحكمة لا تملك إذناً بالتبرع بأموال القاصر أو المحجور عليه، فإذا حصل مثل هذا التصرف كان باطلاً.
3- شروط الرد:
أجاز القانون المدني للمدين رد الإبراء، فهو تصرف قانوني صادر من جانب المدين، يتصف بالطابع التبرعي كالإبراء أيضاً، ولهذا فلا يقبل الرد من المدين إذا لم تتوافر الأهلية الكاملة، ويقصد بها أهلية التبرع.
أساس ذلك أن المدين عندما يرد الإبراء بعد وصوله إلى علمه يبقي ذمته مشغولة بالدين ويزيد من التزاماته وإفقار نفسه تجاه دائنيه الآخرين، ولهذا أجاز القانون لهؤلاء أن يطعنوا في رده للإبراء بالدعوى البولصية لأن هذا الرد زاد من التزاماته إذ عاد الدين إلى ذمته بالرد وبعد انقضائه.
رابعاً: إثبات الإبراء:
ثبت أن الإبراء تصرف قانوني رضائي يأخذ طابع التبرع، لكن إصداره لا يحتاج إلى ورقة رسمية أو شكل خاص ولو وقع على التزام مصدره شكلي مفروضاً بحكم القانون أو متفقاً عليه من المتعاقدين (م370) مدني.
فإذا كان القانون لايشترط شكلاً خاصاً لوقوع الإبراء فإن الطرفين يتقاسمان عبء الإثبات وفقاً للقواعد العامة، إذ يتولى الدائن إثبات وجود الدين ومقداره، كما يتولى المدين الذي يدعي الإبراء من الدين إثبات ادعائه.
فإذا كان أصل الالتزام يزيد على خمسمئة ليرة سورية أو كان غير محدد القيمة، فلا يجوز له إثبات الإبراء إلا بالكتابة أو بما يقوم مقامها ما لم يكن في الأصل من الالتزامات التجارية أو من الالتزامات المدنية التي لا تزيد قيمتها على خمسمئة ليرة سورية.
أما إذا وقع الإبراء على تصرف مصدره عقد شكلي مفروض بحكم القانون كعقد الهبة الرسمي أو بموجب التزام المشتري بدفع الثمن طبقاً لعقد البيع الذي يرد في ورقة رسمية فيمكن للموهوب له أو للبائع الإبراء من دون الحاجة إلى أن يكون الإبراء بورقة رسمية. وإذا جرى خلاف يتولى الدائن إثبات الدين، كما يتولى المدين الذي يدعي الإبراء إثبات تلك الواقعة وفقاً للقواعد العامة للإثبات.
خامساً: آثار الإبراء:
القاعدة الأساسية في القانون أن الإبراء يؤدي إلى انقضاء الالتزام، فإذا أبرأ الدائن مدينه مختاراً من الدين الذي في ذمته انقضى هذا الدين بالإبراء كما ينقضي بالوفاء.
غير أن أثر هذا الإبراء لا يتم إلا بعد أن يصل إلى علم المدين، وللأخير حق رد الإبراء، فإن لم يرده يعدّ الإبراء نافذاً من دون الحاجة إلى إعلان القبول به، وإن ردّه عاد الدين إلى ذمته بعد أن انقضى بالإبراء (م370) مدني. نتيجة ذلك تترتب آثار تجاه كل من الدائن والمدين.
أ- فيما يخص الدائن:
الإبراء قبل كل شيء يقضي الدين، فهو تصرف قانوني يفقر الدائن لأنه ينقص من حقوقه، وتسري عليه الأحكام الموضوعية التي تسري على كل تبرع (م370) مدني، لذلك يخضع تصرف الدائن بالإبراء إلى أحكام الدعوى البولصية التي تسري على التبرع (م239) منه.
ويترتب على ذلك:
أنه يجوز لدائني الدائن الذي صدر منه الإبراء أن يطعنوا في هذا الإبراء بالدعوى البولصية، كما يطعنون في أي تبرع صادر من مدينهم طبقاً للمادة (239) مدني، ولا تحتاج إلى إثبات شيء سوى طلب عدم نفاذ التصرف.
ب- أما المدين:
حدد القانون أنه يتم الإبراء متى وصل إلى علم المدين، ولكنه يرتد برده (المادة370). فإذا علم المدين بوصول الإبراء ولم يرده برئت ذمته، أما إذا رده يعود الدين إلى ذمته بعد أن انقضى بالإبراء.
والمسألة التي تثور في هذا الصدد هو تحديد «الوقت» الذي يجب فيه رد الإبراء نظراً لسكوت القانون عنها. وبما أن القانون استمد فكرة الإبراء والرد من الفقه الإسلامي فإن الأخير حدد الوقت في مجلس الإبراء، وهو المجلس الذي يعلم فيه المدين بالإبراء، ففيه يجب الرد، وإلا يعدّ نافذاً، فلو رد المدين الإبراء بعد انفضاض هذا المجلس بقي الإبراء نافذاً ولا يرتد.
واستناداً إلى ذلك يعدّ رد المدين تصرفاً قانونياً من جانبه، ولهذا يجب أن يتمتع «بأهلية التبرع» أسوة بالدائن. فإذا رد الإبراء فإنه يفقر نفسه ويزيد في التزاماته، فيجوز لدائنيه أن يطعنوا فيه بالدعوى البولصية إذا أثبتوا أن رد الإبراء قد سبب إعسار المدين أو زاد في إعساره، من دون الحاجة إلى إثبات تواطؤ الدائن معه، ولا سوء نية المدين.
وأما المتضامنون مع المدين:
لم يتطرق القانون المدني في فصل إبراء الدين إلى مسألة التضامن مع المدين، وبقيت تخضع لأحكام القواعد العامة فيه، وعليه تواجه هذه المسألة حالتين تطرقت إليهما المواد (289 و290 و291) منه.
الحالة الأولى: وتحكمها المادة (289) مدني، وفيها يبرئ الدائن أحد المدينين المتضامنين، فالإبراء يقتصر على هذا المدين، ولا تبرأ ذمة الباقين إلا إذا صرح بذلك. وعليه فلا يستطيع الدائن أن يطالب مدينه بشيء بعد الإبراء، ولكنه يستطيع أن يطالب كلاً من المدينين الآخرين بالدين بعد أن يستنزل حصة المدين الذي أبرأه، ما لم يكن قد احتفظ بحقه في الرجوع عليهم بكل الدين، وفي هذه الحالة يكون لهؤلاء حق الرجوع على المدين الذي صدر الإبراء لمصلحته في الدين.
الحالة الثانية: وتحكمها المادتان (290 و291) مدني، وفيها يبرئ الدائن أحد المدينين المتضامنين من التضامن فقط. فعندئذٍ لا يستطيع أن يطالبه إلا بحصته في الدين، ولكن يستطيع أن يطالب كلاً من المدينين بكل الدين. فإذا وفى أحدهما الدين كله يرجع على المدين الآخر بحصته في الدين، ثم يرجع على المدين الأول الذي أبرأه بحصته في الدين كذلك. وإذا أعسر أحد المدينين المتضامنين يحمل تبعة هذا الإعسار المدين الذي وفى الدين، وسائر المدينين الموسرين، كل بقدر حصته (م298) منه.
والنتيجة إذا أبرأ الدائن أحد المدينين المتضامنين من الدين أو التضامن فله أن يرجع على كل من الباقين بكل الدين، بعد استنزال حصة من أبرئ أو من دون استنزال هذه الحصة، ولا يكون لمن يقوم بالوفاء من المدينين بجملة الدين بعد استنزال حصة المدين الذي أبرأه الدائن أن يرجع بشيء على هذا المدين، ولكن يثبت له حق الرجوع عليه بحصته لو أنه قام بالوفاء بجملة الدين من دون أن يستنزل تلك الحصة.
مراجع للاستزادة:
- أحمد نشأت، رسالة الإثبات، الجزء الأول.
- عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الجزء الثاني والثالث، شرح القانون المدني.
- شفيق طعمة، مجموعة التقنين المدني السوري (اجتهادات قضائية)، (دمشق).
- مصطفى السباعي، شرح قانون الأحوال الشخصية السوري، (الجامعة السورية (سابقاً)، طبعة 8591).
- مجلة «المحامون» السورية، صادرة عن نقابة المحامين السورية.
شاركنا بتعليقك...