القيمة القانونية لإعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير :
توجد إلى جانب الوثيقة الدستورية المكتوبة وثائق أخرى تعلن فيها مبادئ عامة وتوضح فيها فلسفة المجتمع وتسمى إعلانات الحقوق والحريات، كما يمكن أن تدرج تلك الفلسفة والمبادئ في دساتيرها على شكل مقدمات أو ديباجات. ومن أهم الأمثلة على ذلك إعلان الحقوق الأمريكي الصادر في عام 1776 وإعلان الحقوق الفرنسي الصادر في عام1789 .
ان مسالة القيمة القانونية لاعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير كانت محل جدل واختلاف كبير بين الفقهاء، اذ لم يكن هناك اتفاق حول ما اذا كانت تلك النصوص تملك قوة النصوص القانونية. ومن ثم فان خرقها من قبل سلطات الدولة يؤدي الى بطلان هذا الاخير. وغالبا ما تسجل الدولة، على اثر ثورة وقيام نظام جديد يختلف عن سابقه من حيث الاسس والمبادئ، قيم المجتمع الجديد ونظمه في وثيقة رسمية يتعرف الشعب من خلالها على فلسفة النظام الجديد وما يثبّت له من حقوق وما يفرضه عليه من واجبات، وذلك لربط جسور الثقة والاستقرار بين السلطة الجديدة والشعب، ومع ذلك تظل تلك الوثائق تثير هي الاخرى مسائل تتعلق بقيمتها وقوتها القانونية بين مصادر المشروعية الاخرى. وعلى كل حال فانه يمكن تلخيص الاراء التي تناولت هذه المسالة كما يلي :-
1- يرى جانب من الفقه- (المدرسة الموضوعية التي تزعمها كل من Duguit و Hauriou مع إختلافهما في التأصيل ) - بان لمقدمات الدساتير واعلانات الحقوق قيمة قانونية تسمو على النصوص الدستورية، بوصفها تتضمن الاسس التي تشيد عليها هذه النصوص وبهذا فهي ملزمة للسلطة التأسيسية التي تقوم بوضع الدستور، ومن باب أولى فهي ملزمة للسلطات المؤسسة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
وانتقد هذا الرأي لسببين :-
- الأول لتعارضه مع مبدأ تدرج القوانين الذي لا يتضمن قواعد تعلو الدستور .
- والثاني لتعارضه مع المنطق فالسلطة التأسيسية الأصلية هي التي وضعت الدستور وضمنته مقدمة لا يمكن القول بان إرادتها عند وضع المقدمة أعلى من إرادتها عند وضع المتن أو صلب الدستور .
2- بينما يساوي جانب اخر من الفقه بين النصوص الدستورية وبين مقدمات الدساتير واعلانات الحقوق بسبب ورودها عن ذات المنبع الا هو ادارة السلطة التاسيسية. فالسلطة التأسيسية الأصلية عند وضعها الدستور عبرت عن إرادتها في شكلين :
- الشكل الأول هو المبادئ والمثل والأهداف وضمنتها مقدمة الدستور .
- الشكل الثاني هو القواعد القانونية المحددة التي تعالج على وجه الدقة حقوقا والتزامات واختصاصات .
ومن هنا فإن المقدمة وصلب الدستور لهما نفس القيمة القانونية باعتبارهما تعبيرا عن ارادة واحدة وصادرين في وثيقة واحدة .
3- ويميز جانب ثالث ( منهم Jèze و Morange و Jean RIVERO و Georeges VEDEL مع بعض الاختلاف بينهم ) بين القواعد القانونية التي تحتويها اعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير، ويميزون بين نوعين من القواعد أو الأحكام الواردة في النصوص المتعلقة بالحريات و الحقوق : الأحكام أو القواعد التقريرية أو القانونية، و الأحكام أو القواعد التوجيهية أو البرامجية.
- فالأحكام أو القواعد التقريرية أو القانونية (الأحكام الوضعية) Règle de droit positif، هي الأحكام التي تتصف بالتحديد، و بالتالي هي الأحكام القابلة للتطبيق الفوري : أي يستطيع الأفراد الاحتجاج بها أمام القضاء العادي و الدستوري، دون حاجة لتدخل المشرع العادي. فهي تشكل قيداً على المشرع العادي، الذي لا يملك مخالفتها تحت طائلة عدم الدستورية. و مثال ذلك ما جاء من أحكام في المواد التالية من دستورنا الدائم لعام 1973 : المادة /25/ المتعلقة بالمساواة بين المواطنين أمام القانون، و المادة /32/ المتعلقة بحرمة المسكن، و المادة /33/ المتعلقة بحرية التنقل..الخ.
-أما الأحكام أو القواعد التوجيهية أو البرامجية Règle directive أوRègle de programme، فهي أحكام غير محددة، لا يمكن تطبيقها بدون تدخل المشرع العادي. فالمواطن لا يمكنه الاحتجاج بها أمام القضاء. و لذلك فهي تمثل مجرد قواعد توجيهية أو مجرد برنامج سياسي أو اجتماعي للحكم.فهذه الأحكام تشكل برنامج عمل تسعى الدولة أو نظام الحكم لتحقيقه، و لا يمكن للمواطن اللجوء للقضاء للاحتجاج بهذه الأحكام إلا إذا تدخل المشرع ليضعها موضع التطبيق. فالمشرع إذن وحده يمكنه جعل هذه الأحكام قابلة للتطبيق و يضع مبادئها موضع التطبيق فيما يصدر من قوانين بحيث يتعين عليه احترامها عند قيامه بالتشريع فإذا اصدر المشرع قانون يخالف هذه القواعد عُد هذا التشريع غير دستوري . و بالتالي يتمكن المواطن على أثرها من الاحتجاج بها، و مثال ذلك ما نصت عليه بعض الدساتير على أن التعليم حق لكل مواطن تكفله الدولة و هو مجاني في جميع مراحله و إلزامي في مرحلته الابتدائية، فهذا النص أصبح يمكن تطبيقه، و يمكن لأي مواطن الاحتجاج به أمام القضاء لأن المشرع تدخل بعدة قوانين، و نظم عملية إلزامية التعليم و مجانيتها. فالتزام المشرع من هذه الناحية هو التزام سياسي أو أدبي، بحيث يتمتع بسلطة تقديرية واسعة للتدخل في هذا الإطار. و لكن المشرع رغم ذلك يلتزم بالقيمة القانونية الدستورية لهذه الأحكام، فلا يمكنه إصدار تشريعات تخالفها. ويلتزم المشرع إزاء النصوص التوجيهية أو المنهجية بالتزامين :
- الالتزام الأول : وجوب تدخل المشرع لإصدار القوانين اللازمة لتنفيذ هذه النصوص .
- الالتزام الثاني : فيتمثل في وجوب إصدار المشرع لقوانين تتفق مع هذه النصوص ولا تخالفها بشكل صريح أو ضمني . ومن أمثلة النصوص التوجيهية أن تتضمن مقدمة الدستور نص يقرر إن ( الأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق ) وفي هذه الحالة لا يستطيع المشرع أن يصدر قانون يعترف فيه ببعض الحقوق للابن غير الشرعي وسوف يكون هذا القانون – إن صدر – مخالفا للدستور .
4- ومن الفقهاء ( وهم أنصار المدرسة الشكلية وعلى رأسهم كل من Esmein و Laferrière ) من يجرد اعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير من اي قوة الزامية وينكر عليها ان تكون لها قيمة قانونية فهي برأيهم مجرد مبادئ توجيهية و امال وطموحات لواضعي الدستور ولا تتضمن سوى مبادئ فلسفية و سياسية اكثر منها قانونية محددة ، ومن ثم لا تعد قواعد قانونية منشئة لمراكز قانونية واضحة المعالم، على المشرع أن يلتزم بها وان يدخل مضمونها في نصوص قانونية عادية غير أن هذا الالتزام يظل التزاما أدبيا ، فإذا امتنع المشرع عن ذلك أو خالف محتوى تلك المبادئ فانه لا يجوز التمسك بها قانونا في مواجهة السلطة العامة .
- ونتساءل أي الآراء الفقهية السابقة الذكر يعد الرأي الأرجح و الأوفق في تحديد القيمة القانونية لمقدمة الدستور ؟ . هناك من يرى بأن الرأي الثاني كونه يمثل اتجاه توفيقي يعطي لمقدمة الدستور قيمة قانونية تساوي قيمة النصوص التي يتضمنها الدستور ذاته ويستند هذا الاتجاه إلى ثلاث حجج:
- حجة تاريخية : تشير إلى أن إعلانات الحقوق الواردة في المقدمة كانت تعتبر جزءا لا يتجزأ من الدستور
- حجة واقعية : مستوحاة من الممارسة القضائية ، التي تساوي بين المقدمة ومتن الدستور من ناحية القوة القانونية وتخضعها للرقابة على دستورية القوانين .
- حجة قانونية : ترى في كل دستور نوعين من الدساتير : دستورا سياسيا يحدد نظام الحكم ودستورا اجتماعيا يحدد أسس النظام الاجتماعي وحقوق المواطن والجماعات
يعزز هذا الاتجاه ما ذهبت إليه الجهات المختصة بالرقابة الدستورية حيث ذهب المجلس الدستوري في فرنسا في قرار صادر في 16/7/1991 إلى عدم دستورية القانون المعروض عليه لمخالفته لمقتضيات حرية تكوين الجمعيات التي نصت عليها مقدمة دستور عام 1946 واقرها وأحال إليها دستور عام 1958 وأكد المجلس الدستوري إن ديباجة الدستور الفرنسي ( تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الدستور ذاته ) وسار المجلس الدستوري في لبنان على ذات النهج وأضفى على ديباجة الدستور اللبناني قيمة دستورية شأنها في ذلك شأن أحكام الدستور نفسها. وقبل ذلك فقد خضع موقف مجلس الدولة الفرنسي من مسألة القيمة القانونية لاعلانات ومقدمات الدساتير والمبادئ الواردة فيها الى تطوير كبير، حيث لم يعط مجلس الدولة هذه المبادئ في البدء، قيمة النصوص القانونية المكتوبة وان كان يعترف لها بنوع من الإلزام بوصفها إما قواعد عرفية غير مكتوبة أو مبادئ قانونية عامة. إلا أن موقف مجلس الدولة ـ كما يبدوـ قد تغير منذ قضية CANDAMINE في 7 جوان1957 حيث اعترف لاول مرة بالقيمة القانونية للنصوص الواردة في إعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير. بوصفها مصدرا لقواعد قانونية مكتوبة لها بذاتها قوة الزامية قانونية، ويترتب على مخالفتها من جانب الادارة بطلان ما تصدره من قرارات للمخالفة لها.
ولكنه على الرغم من أنَّ مجلس الدولة قد وصل إلى إقرار القيمة القانونية لإعلانات الحقوق و مقدمات الدساتير والزاميتها فقد كان هذا التردد للمجلس السبب الذي دعا بعض فقهاء القانون العام إلى تحديد مرتبة هذه النصوص.
شاركنا بتعليقك...