وقد أصطلح على هذا النوع من القواعد القانونية
بالقانون العام ، ومن فروعه القانون الدولي العام والقانون الدستوري
والقانون الإداري والقانون المالي.
ومن المعروف أن القانون الإداري فرع من فروع القانون العام الداخلي – تميزاً له عن القانون العام الخارجي الذي ينظم العلاقات بين الدول – والذي يهتم بسلطات الإدارة العامة من ناحية تكوينها ونشاطها وضمان تحقيقها للمصلحة العامة من خلال الإمتيازات الاستثنائية التي تقررها قواعد القانون الإداري .
و للقانون الاداري مجموعة من الخصائص و المميزات التي تميزه عن باقية فروع النظام القانوني في الدولة فيا ترى فيما تتمثل هذه المميزات و الخصائص؟
وللاجابة على هذه الاشكالية قسمنا بحثنا الى المباحث التالية ....
حيث تناولنا في المبحث الاول....
المبحث الأول :ماهية القانون الإداري
المطلب الأول : التعريف بالقانون الإداري
المطلب الثاني: نشأة القانون الإداري وتطوره
المطلب الثالث: علاقة القانون الإداري بالقوانين الأخرى
المبحث الثاني: خصائص القانون الإداري
المطلب الأول : القانون الإداري حديث النشأة
المطلب الثاني : القانون الإداري يتسم بالمرونة و التطور
المطلب الثالث : القانون الإداري غير مقنن
المطلب الرابع : القانون الإداري قانون قضائي
الخاتمة
المبحث الأول :ماهية القانون الإداري
المطلب الأول : التعريف بالقانون الإداري
يمكن تعريف القانون الإداري من هذه الزاوية على أنّه مجموعة من القواعد القانونية الّتي تحكم الإدارة العامة من حيث تنظيمها ونشاطها وأموالها وما يثيره هذا النشاط من منازعات.
والقانون الإداري إذا نظرنا إليه من الجانب الوصفي و العضوي أو الهيكلي نجده في كل دولة على اختلاف توجهاتها وأنماط تسييرها. فكل دولة لها جهازها الإداري الّذي يخضع دون شك لقواعد القانون، سواء من حيث التنظيم والنشاط و الأموال و الرقابة و ضبط المنازعات و غيرها من المسائل.
غير أنّ الاختلاف بين الدول تمحور بالأساس هل يجب أن تخضع الإدارة لنفس القواعد الّتي يخضع لها الأفراد، أم أنّه ينبغي ولاعتبارات معيّنة أن تخضع لقواعد متميزة غير مألوفة لدى الأفراد؟
ففي البلاد الأنجلو سكسونية يخضع نشاط الإدارة لذات القواعد الّتي تحكم نشاط الأفراد و الهيئات الخاصة. وهذا يعني أنّ الإدارة تخضع لقواعد القانون الخاص (المدني و التجاري)، وإذا نتج عن هذه العلاقة منازعة خضعت لذات القواعد و الإجراءات الّتي تسري على الأفراد و يفصل فيها أمام نفس الجهة القضائية التي يمثل أمامها كل الأشخاص، لذا فانّ الميزة الأساسية في هذه الدول أنّها نظرت للقانون ككل نظرة واحدة، فهو لا يختلف بالنّظر لطبيعة الشخص (شخص من أشخاص القانون العام أو شخص من أشخاص القانون الخاص). فالقانون واحد لا يتغير بالنظر لطبيعة الشخص.
هذا ويجدر التنبيه أنّ الفقه الإنجليزي ينبذ فكرة القانون الإداري بالمفهوم الفرنسي على اعتباره أنّه من صور تسلّط الإدارة. كما أنّه يشكل انتهاكا صارخا لمبدأ المساواة أمام القانون، ولمبدأ الفصل بين السلطات هذا الأخير الّذي يفرض خضوع الإدارة كالأفراد تماما لنفس الجهة القضائية، فوحدة القانون في نظرهم هي أكبر ضمانة ضد تعسف الإدارة.
ومما يذكر في هذا المجال ما كتبه الفقيه Dicey بخصوص القانون الإداري الفرنسي في مؤلفه مدخل للقانون الدستوري سنة 1839 قال: " إنّ القانون الإداري خطير على الحريات الفردية وإنّه لمن رواسب النّظام السابق للثورة وإنّ البلاد الإنجليزية لا ترغب في أن يكون لها مثل هذا النوع من القانون". و يرى بعض الكتاب أنّ البلاد الإنجليزية وإن كانت قد رفضت فكرة القانون الإداري من حيث المبدأ، إلا أنّها بادرت في المدة الأخيرة إلى إنشاء محاكم خاصة عهد لها مهمة البتّ في منازعات إدارية محدّدة وهذا ما يدل على مؤشر تبنّيها واستقبالها لفكرة القانون الإداري.1
1 أنظر الدكتور عاطف البنا الوسيط غي القانون الإداري دار الفكر القاهرة 1984 ص.41.الدكتور عبد الغني بسيوني عبد الله القانون الإداري الإسكندرية منشاة المعارف1991ص17.الدكتور محمود حلمي موجز مبادىء القانون الإداري القاهرة دار الفكر 1978ص8الدكتور محمد عبد الحميد أبو زيد المرجع في القانون الإداري القاهرة دار النهضة 1999ص.30. الدكتور ثروة بدوي القانون الإداري دار النهضة 2002 ص.الدكتور ماهر جبر نصر الأصول العامة للقانون جامعة المنصورة 2002ص6. 3
و الحقيقة أنّ هذا المسعى لم يعزز بمساع أخرى ولم يحدث ترسيخه إلى حد الآن. ولقد تبعت دول كثيرة انجلترا في توجهها مثل أستراليا و نيوزيلاندا، ودول من العالم الثالث مثل الهند و بعض الدول الإفريقية.
وعلى خلاف ذلك رأت دول أخرى و على رأسها فرنسا أنّه من الضروري التمييز بين القواعد القانونية الّتي يخضع لها الأفراد وسائر أشخاص القانون الخاص، والقواعد الّتي تخضع لها الإدارة. وتأسيسا على هذا الاختلاف و التباين في المواقف وجب أن يكون للقانون الإداري مفهوم واسع شامل مطلق وآخر ضيق فني خاص. ويقصد بالمفهوم الواسع للقانون الإداري: " مجموع القواعد القانونية التي تحكم الإدارة العامة سواء كان مصدرها القانون الخاص أو القانون العام بل وحتى إن كان مصدرها القانون الخاص وحده ". ويترتّب على إعمال هذا المفهوم القول بأنّ القانون الإداري موجود في كل الدول لأنّه لا يتصور وجود دولة دون إدارة عامة.
المطلب الثاني: المفهوم الضيق.
يقصد بالقانون الإداري بالمفهوم الضيق مجموع القواعد القانونية المتميّزة والمختلفة عن قواعد القانون الخاص الّتي تحكم الإدارة العامة من حيث تنظيمها ونشاطها وما يترتّب على هذا النشاط من منازعات.
ومن هنا نخلص إلى القول أنّ القانون الإداري بالمعنى الضيّق هو القانون الإداري الحقيقي الذي نقصده. فهو ليس مجرّد تسمية لقانون يحكم الإدارة العامة، بل هو قانون متميّز يحتوي على أحكام خاصة مختلفة عن قواعد القانون الخاص. وهذا المفهوم هو الذي سيلازمنا من خلال هذه الدراسة.
ولعلّه من الفائدة أن نشير و نحن بصدد توضيح المفاهيم أنّ الإدارة العامة لا تخضع في كل معاملة ونشاط للقانون الإداري وحده، بل قد يحكمها القانون الخاص في مواضع وحالات معينة، ذلك أنّ الإدارة حينما أحيطت بقواعد متميّزة كان ذلك بالنظر لأنهّا تمثل سلطة عامة، و تدير مرفقا عاما، وتمارس نشاطا متميزا، و تستخدم أموالا عامة، و تهدف إلى تحقيق مصلحة عامة، فان هي فقدت هذا الموقع وابتعدت عن هذا النشاط (النشاط المتميز) خضعت للقانون الخاص ولم تعد هناك حاجة لإخضاعها للقانون العام وإحاطتها بقواعد متميّزة وبقضاء خاص مستقل.
وإذا كان خضوع الدولة للقانون مبدأ مستقر ومسلم به في مختلف الأنظمة على اختلاف أنواعها، فان هذا المبدأ يفرض خضوع الإدارة للقانون، ولا يعد انتهاكا لهذا المبدأ أن تحظى الإدارة بأحكام متميزة غير معروفة في مجال القانون الخاص كما لا يعد مساسا بمبدأ المساواة أمام القضاء أن تحظى الإدارة بقضاء مستقل لأن الدولة أو بعبارة أخرى أدق السلطة العامة تختلف من حيث طبيعتها عن الأفراد. و تبعا للمفهوم الضيّق و الفني للقانون الإداري فان هذا الفرع من القانون يعتني بالجهاز الإداري للدولة فيحكم المسائل التالية:
1- تنظيم السلطة الإدارية: يتكفّل القانون الإداري بتنظيم السلطة الإدارية و تحديد طبيعتها هل هي سلطة مركزية تربط موظفي الأقاليم بتوجيهات وأوامر رؤسائهم الإداريين (تركيز السلطة) أم أنّها سلطة موزعة تباشر كل هيئة مهامها تحت إشراف الجهة الوصية ورقابتها (لامركزية السلطة).
2- نشاط الإدارة: ويتجلى في صورتين:
- الضبط الإداري.
- المرفق العام.
3- أساليب الإدارة: وتظهر في:
- إصدار القرارات الإدارية (نظرية القرار).
- إبرام الصفقات (نظرية العقود).
4- وسائل الإدارة: وتنحصر في الوسيلة البشرية و الوسيلة المادية.
- نظرية الموظف العام.
- نظرية المال العام.
5- منازعات الإدارة: وتشتمل الجهة القضائية المختصة بالفصل في المنازعات ذات الطابع الإداري وكذلك الجوانب الإجرائية الواجبة الإتباع.
المطلب الثالث موقف المشرع الجزائري
سبق القول أنّ القانون الإداري بالمفهوم الفنّي يتضمّن مجموعة قواعد استثنائية غير مألوفة في مجال القانون الخاص تخضع لها الإدارة العامة، وهذه القواعد نشأت عبر مراحل وفرضتها أسباب موضوعية، كما سنوضح ذلك لاحقا.
ومن هنا يطرح السؤال: هل تحققت هذه القواعد الاستثنائية في النظام القانوني الجزائري وما هي صورها؟
لقد تبنى المشرّع الجزائري تدريجيا وبموجب نصوص عديدة فكرة القانون الإداري بالمفهوم الفرنسي كما تأثّر بها القضاء الجزائري
المطلب الثاني:: نشأة القانون الإداري وتطوره
ينبغي في البداية التوضيح بشأن بعض المصطلحات تفاديا لكل خلط قد يحدث لدى الدارسين للقانون الإداري. إذ لابد من إقرار مسألة جوهرية أن القانون الإداري كمجموعة قواعد غير مألوفة في القانون الخاص، والقانون الإداري كتسمية و كفرع من فروع القانون هو حديث النشأة حقا.
بينما نرى محاور جزئية ضمن القانون الإداري قديمة في ظهورها ولا يمكن الاعتراف بصفة الحداثة بشأنها. بل تعود نشأتها إلى أمم و شعوب خلت منذ ظهور الدولة في حد ذاتها كمفهوم دستوري.فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر نظرية التنظيم الإداري و هي أحد أهم محاور القانون الإداري فهي نظرية وجدت في الدولة الرومانية و الدولة الصينية و اليونانية و الإسلامية و غيرها من الدول و على مدى الحضارات و الأجيال المتعاقبة.
لذلك ذهب البعض إلى القول أنّ القانون الإداري كان ملازما للدولة الإسلامية منذ وجودها و ليس من خصائص الدولة الحديثة. لأنّ كل مجتمع متحضر أيا كان نوعه يوجد به قانون إداري بمعناه الواسع الذي يتناول مجموعة موضوعات منها نظرية التنظيم الإداري.
وليست نظرية التنظيم الإداري لوحدها من عرفتها المجتمعات القديمة، بل نظرية المال العام، وسلطات الإدارة خاصة سلطة الضبط.
فكل هذه الخلايا اللصيقة بالقانون الإداري عرفتها الدولة القديمة التي لا يمكن أن يقوم لها ركن إذا لم تجسد فكرة التنظيم الإداري و تعتمد على الأعوان العموميين (الموظف العام). وتمارس جملة من السلطات كمظهر من مظاهر وجودها خاصة سلطة الضبط الإداري للتحكم في الجوانب الأمنية بما يؤدي إلى استقرار الأوضاع و تنظيم العلاقة بين الحاكم و المحكوم. فالمجتمعات القديمة عرفت القانون الإداري جوهرا و تطبيقا و ممارسة و لم تعرفه شكلا أو تسمية.
أمّا القانون الإداري بالمفهوم الفني الضيق فلم يبرز للوجود إلا في فرنسا وعقب مراحل أساسية يمكن حصرها فيما يلي:
أولا: مرحلة عدم مسؤولية الدولة.
أجمعت مختلف الدراسات أنّ القانون الإداري ظهر في فرنسا وهو مرتبط بتاريخها ونظام الحكم فيها. فقبل الثورة الفرنسية 1789 تمتع الملوك بسلطات مطلقة في تسيير شؤون الدولة انطلاقا من فكرة أنهم امتداد لإرادة الله وأنهم ظلّ الله فوق الأرض. فالعدالة مصدرها الملك و لا يتصوّر خضوعه لأي شكل من أشكال الرقابة و حتى القضائية منها.
و لا شك أن تصورا من هذا القبيل لمن شأنه أن يخلع كل قيد يحيط بالإدارة في تصرفاتها. وهو ما يترتب عليه المساس بحقوق الأفراد خاصة بعد انشغال طبقة البرجوازية ورجال الدين في جمع الثروة مما زاد الوضع سوءا وهو ما دفع الفلاسفة ورجال الفكر و الفقهاء إلى دق ناقوس الخطر فطالبوا الشعب أن يلتف حولهم ما أدى في النهاية إلى انفجار الثورة.
وكان الملك في المرحلة السابقة للثورة الفرنسية يقوم بنفسه بتوزيع الاختصاص بين المحاكم المختلفة و يملك حق سحب أيّ منازعة من القضاء ليتكفل هو بالفصل فيها أو يعهد بها إلى غيره، كما تمتع الملك بسلطة واسعة إزاء الأحكام فحقّ له أمر وقفها أو ممارسة حق العفو.
ثانيا: مرحلة الإدارة القاضية - Administration juge.
لما قامت الثورة الفرنسية رأت السلطة المنبثقة عنها أن المحاكم العادية قد تعرقل الإصلاحات التي تعتزم الإدارة القيام بها وتحد من فعاليتها وهو ما تأكد عملا في زمن البرلمانات. لذا كان الانشغال الكبير الذي راود السلطة الفرنسية آنذاك هو محاولة إيجاد صيغة وطريقة لإبعاد منازعات الإدارة عن ولاية واختصاص المحاكم العادية.
فصدر لهذا الغرض القانون 16-24 أوت 1790 فجاء في الفصل 13 منه ما يليّ " إن الوظائف القضائية تبقى دائما مستقلة عن الوظائف الإدارية و على القضاة وإلا كانوا مرتكبين لجريمة الخيانة العظمى ألا يتعرّضوا بأيّ وسيلة من الوسائل لأعمال الهيئات الإدارية".
"Les fonctions judiciaires sont distinctes et demeureront toujours sépares des fonctions administratives. les juges ne pourront à,peine de forfaiture troubler de quelque manière que ce soit les opérations des corps administratifs".
وتأكّد هذا المبدأ مرة أخرى بالقول: " إن القضاة لا يمكنهم التعدي على الوظائف الإدارية أو محاكمة رجال الإدارة عن أعمال تتصل بوظائفهم و يحظر على المحاكم حظرا مطلقا النظر في أعمال الإدارة أيما كانت هذه الأعمال ".
"Les juges, ne peuvent entreprendre sur les fonctions administratives ni citer devant eux les administrateurs pour raison de leurs fonctions.
Défenses intégratives sont faites aux tribunaux de connaître des actes d’administration de quelques espèces qu’ils soient ".
وهكذا اعتبر المدافعون عن قانون 1790 أنّ مقاضاة الإدارة أو مساءلة أعوانها يؤدي دون ريب إلى عرقلة أعمالها التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام. فعندما تنوي الإدارة نزع ملكية وتقف أمام القضاء من أجل هذا العمل فإنّ إجراءات النزع ستتوقف وأيلولة المال من الملكية الخاصة إلى الملكية العامة ستجمّد. وهو ما يؤدي في النّهاية إلى تعطيل المشاريع ذات الطابع العام. وما قيل عن النزع يقال عن غيره من سلطات الإدارة كسلطة الضبط أو السلطات في مجال التعاقد.
و تطبيقا لهذا القانون فانّ المنازعات الإدارية التي تكون الإدارة المركزية طرفا فيها فإنها تحال مباشرة على الملك. أمّا المنازعات التي تكون الإدارة المحلية طرفا فيها فقد اختصّ بها حكام الأقاليم. فقد قالSirey عبارة تؤكد هذا المعنى سنة 1818:" العدالة الإدارية متمّمة و مكمّلة للعمل الإداري".
ومن هنا اجتمع في الإدارة صفة الخصم و الحكم لذلك سميت هذه المرحلة بمرحلة الإدارة القاضية.
وجدير بالذكر أنّ أحكام هذا القانون منعت القضاء من تأويل النصوص الغامضة وألزمته باللجوء للسلطة التشريعية في نطاق ما يسمى بالدعوى التشريعية الاستعجالية.
والحقيقة أن الأسباب المستند إليها لفرض وإعمال قانون 1790 يمكن دحضها بالنظر لما يأتي:
1- إن عدم خضوع الإدارة أمام القضاء يعني أن المحاكم قد تكون في وضعية إنكار العدالة فهي حين يقصدها المتقاضون نتيجة عمل قامت به الإدارة أو تسبب فيه أحد أعوانها تضطر وتطبيقا لقانون 1790 إلى التصريح برفض الدعوى لعدم الاختصاص أيا كان الضرر الناتج عن هذا العمل وأيا كانت خروقاته وتجاوزاته.
2- لقد تناسى المدافعون عن القانون 1790 أنّ مبدأ الفصل بين السلطات يفرض تمكين السلطة القضائية من مراقبة أعمال السلطة التنفيذية وهذا ما أكده مونتسيكو نفسه في كتابه روح القوانين بقوله: " كل شخص بين يديه سلطة مدعو إلى أن يستبد بها فلا بد إذن حتى تنظم الأشياء بكيفية تجعل كل سلطة تمنع تجاوزات السلطة الأخرى ".
ولا مفر من الاعتراف لجهاز القضاء بمراقبة أعمال الإدارة وهذا تطبيقا لمبدأ المشروعية، وصونا للحقوق الأساسية و الحريات العامة، ومنعا للإدارة من كل عمل يطبع بالتعسف.
و تبقى أنّ هذه المرحلة من مراحل تطور القانون الإداري تتميز عن غيرها وسابقتها. ففي المرحلة الأولى لم تكن الدولة ومن ثمّ الإدارة تسأل عن أعمال موظفيها. أما في ظل المرحلة الجديدة (الإدارة القاضية) صار بالإمكان مساءلة الدولة عن أعمال موظفيها لكن أمام الإدارة نفسها.
ثالثا: مرحلة القضاء المقيّد أو المحجوز -Justice retenu.
بصدور دستور السنة الثامنة في عهد نابوليون بونابرت عرفت فرنسا تحولا جذريا في مجال منازعات الإدارة إذ نصت المادة 52 منه على إحداث مجلس الدولة كما تمّ إنشاء مجالس المحافظات. ولقد أرجع كثير من الكتاب سبب إنشاء المجلس إلى سيل الطلبات المرفوعة ضد الإدارة الفرنسية آنذاك.
وما يمكن ملاحظته أن قرارات المجلس في هذه المرحلة لم تكن تكتسي الطابع القضائي بل لا تخرج عن كونها آراء أو مشاريع قرارات بخصوص منازعات معينة وجب أن ترفع أمام القنصل العام (نابليون) باعتباره رئيس الدولة الذي كان له وحده حق المصادقة عليها أو رفضها.
فولاية المجلس لم تكن كاملة وشاملة وأحكامه لم تكن نهائية. أمّا مجالس الأقاليم فقد كانت قراراتها قابلة للطعن أمام مجلس الدولة الذي يبدي أيضا بشأنها الرأي ليرفع فيما بعد للقنصل العام و الذي إن شاء أضفى الطابع التنفيذي على رأي المجلس وإن شاء رفضه.
وإذا كانت هذه المرحلة قد عرفت نواة القانون الإداري ممثلة في مجلس الدولة، إلا أنّه لا يمكن الحديث عن وجود هذا القانون في هذه المرحلة بالذات لسببين:
1- إنّ مجلس الدولة لم يكن صاحب القرار النهائي عند فصله في النزاع بل أن قضاءه كان مقيدا أو معلقا على مصادقة رئيس الدولة، وبالتالي علّق قضاؤه على مشيئة ورغبة السلطة التنفيذية.
2- إنّ مجلس الدولة لم يعتمد أحكاما خاصة حال فصله في المنازعات إنّما طبق القانون الخاص.
وتشد تسمية مجلس الدولة الانتباه من زاويتين:
1- إنّ تسمية مجلس الدولة اعتمدت على غرار التسمية التي كانت سائدة قبل الثورة و هي مجلس الملك (Conseil du Roi) فكأنما المجلس أنشئ لمساعدة السلطة التنفيذية.
2- إنّ تسمية مجلس الدولة، أريد له في بداية الأمر أن يكون بمثابة هيئة مشورة تلجأ إليها السلطة التنفيذية.
وبخصوص حالات رفض رئيس الدولة الفرنسية لمشاريع الأحكام الصادرة عن مجلس الدولة أشار الدكتور ثروت بدوي أنها لم تتعد ثلاث حالات طوال القرن التاسع عشر، وأنّ حالات التعديل كانت في صالح المواطن المدعي لا الإدارة. وإن كان الأستاذ المذكور أشار لصعوبة تحديد و حصر حالات التعديل بحكم الحريق الذي أتى على أرشيف مجلس الدولة الفرنسي 1871.
رابعا: مرحلة القضاء المفوض (تغيير الطبيعة القانونية لمجلس الدولة) Justice déléguée.
لم تدم المرحلة السابقة طويلا إذ صدر في 24 ماي 1872 قانونا اعترف لمجلس الدولة بصلاحية الفصل في المنازعات الإدارية دون حاجة إلى مصادقة السلطة الإدارية على قراراته. ولم تعد الأحكام تصدر باسم رئيس الدولة بل باسم الشعب الفرنسي ومنذ ذلك التاريخ أصبح مجلس الدولة جهة قضائية عليا بأتم معنى الكلمة حيث تم الفصل بين القضاء الإداري و القضاء العادي. ودرءا لأي تنازع في مجال الاختصاص قد يثور تم إنشاء محكمة تنازع تتولى الفصل في المنازعات بشأن الاختصاص الذي قد يحدث بين القضاء العادي و القضاء الإداري عند ابتداعه فكرة تمييز قواعد القانون الإداري عن مجموع قواعد القانون الخاص.
وقد نجح المجلس في تبرير هذه القواعد وتأسيس استقلالية القانون الإداري باعتباره القانون الذي يحكم المنازعات الإدارية. ولقد أحدث نجاحه هذا تخوفا لدى البعض من أن المجلس اغتصب الوظيفة التشريعية في فرنسا.وقد نجح المجلس في تبرير هذه القواعد وتأسيس استقلالية القانون الإداري باعتباره القانون الذي يحكم المنازعات الإدارية. عند إقراره للقواعد تحت عنوان القضاء الإنشائي أو الدور الإبداعي لمجلس الدولة وذلك بمناسبة فصله في القضايا المعروضة عليه.
ومن خلال هذا العرض التاريخي السريع يتبيّن لنا أنّ رغبة السلطة الفرنسية كانت واضحة في إبعاد القضاء العادي من أن يتولى النظر في منازعات الإدارة حتى لا يعرقل نشاطها وأعمالها. وإنّ إنشاء مجلس للدولة جاء ليترجم بصدق ضرورة التفكير في قواعد استثنائية غير مألوفة في مجال روابط القانون الخاص تحكم نشاطات الإدارة.
ولقد أثبتت التجربة أنّ مجلس الدولة ومن خلال المنازعات المعروضة عليه عرف كيف يوازن بين مصلحة الإدارة وحقوق الأفراد الأمر الذي منحه ثقة المتقاضين و الشعب الفرنسي عامة.
واقتنع مجلس الدولة تمام الاقتناع أنّ تطبيق قواعد القانون المدني على منازعات الإدارة سيقف دون شك حائلا دون قيامه بمهمته على أفضل وجه ويعرقل حسن سير المرافق العامة. ولو اعتمد مجلس الدولة على قواعد القانون الخاص وحده حال فصله في المنازعات المعروضة عليه لما وصل القانون الإداري إلى ما وصل إليه ولما عرف ذاتيته واستقلاليته.
و أسّس مجلس الدولة قراراته على روح القانون العام أحيانا و على مقتضيات العدالة أحيانا أخرى و على حسن سير المرفق العام في حالات ثالثة.
ودأب مجلس الدولة على تقسيم أعمال السلطة التنفيذية إلى قسمين: أعمال السيادة وأعمال الإدارة العامة. فترك للإدارة حرية واسعة في دائرة الأعمال الأولى، وأقرّ عدم صلاحيته في مراقبة هذا النوع من الأعمال إن إلغاءا أو تعديلا،
وقصر رقابته فقط على ما يسمى بأعمال الإدارة العادية.
ويعود سر استبعاد مجلس الدولة الفصل في القضايا التي تتعلق بما اصطلح عليه بأعمال السيادة من وجهة نظرنا أنّ لهذا النوع من الأعمال وثيق الصلة بالسياسة العامة للدولة، بشكل عام مما سيكون لها (أي الأعمال) بالغ الأثر على مجريات الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية. و أنّ التعرض لها بإلغاء من جانب المجلس الدولة من شأنه أن يفسد على السلطة التنفيذية ما رسمته من خطط لذلك استبعدها المجلس من مجال رقابته.
وأمام ما حققه المجلس من نجاح كبير لم تجد الدول الأوربية حرجا في التأثر بالنّمط القضائي الفرنسي و تخلت عن نظام القضاء الموحد كبلجيكا و ايطاليا وامتد أيضا لتركيا و اليونان. و بدورها سارعت بعض البلدان العربية كمصر وتونس و المغرب و الجزائر لتبني فلسفة القانون الإداري واستيعاب فكرة القواعد الاستثنائية وفصل جهة القضاء الإداري عن القضاء العادي ولو مرحليا وذات الأمر حدث في كل من السنغال وكوت ديفوار و الغابون.
وبهذا النجاح تعمّقت مكانة مجلس الدولة سواء في ضمير الشعب الفرنسي كحارس للحريات العامة و لحقوق الإدارة حافظا لمكانتها، مما دفعه إلى إقرار كثير من الامتيازات و السلطات و التي أصبحت تشكل فيما بعد جزءا لا يتجزأ من القانون الإداري.
ّهذا ويجدر التنبيه أن مجلس الدولة يتكون من هيئات إدارية وأخرى قضائية. وقد عهد للقسم الإداري بالمجلس وظيفة الاستشارة و ينقسم بدوره إلى قسم الشؤون الاجتماعية، وتمّ إنشاء لجنة جديدة أطلق عليها اسم لجنة التقرير وأسند إليها دور هام تمثل في إبداء الرأي حول مشروعات القوانين أو اللوائح المقترحة الخاصة بالإصلاح الإدارة. كما أسند إليها مهمة أخرى تتمثل في مراقبة تنفيذ الأحكام القضائية أما عن طريق العرائض التي يتقدم بها الأفراد للقاضي الإداري عند امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام.
أمّا الوظيفة القضائية للمجلس فتتمثل في صلاحيته كمحكمة أول درجة بالنظر في المنازعات المحددة على سبيل الحصر منها:
- الطعون الخاصة بتجاوز السلطة أو دعاوى الإلغاء الموجهة ضد المراسيم اللائحية أو الفردية.
- المنازعات المتعلقة بالمراكز الفردية للموظفين المعنيين بمرسوم.
- الطعون الموجهة ضد أعمال إدارية يتجاوز نطاق تطبيقها دائرة اختصاص محكمة إدارية واحدة.
- كما ينظر المجلس في المنازعة الإدارية باعتباره محكمة استئنافية بخصوص الطعون المرفوعة ضد أحكام المحاكم الإدارية الإقليمية.
خامسا: محكمة التنازع وقرار بلانكو الشهير.
إنّ الحذر الذي راود كثيرا من رجال الفقه و الإدارة في فرنسا لم يكن من القضاء العادي فقط، بل التخوف كان مركزا أكثر على القواعد القانون الخاص. لذا فان تخصيص قضاء مستقل للإدارة كان الهدف منه إحداث نواة لقانون متميز يحكم نشاطها.وكانت مهمته هذه في غاية من الصعوبة خاصة من ناحية تعليل عدم صلاحية قواعد القانون الخاص لأن تحكم بعض صور نشاط الإدارة. ولعلّ النقلة النوعية و القرار التاريخي تجسد في قرار بلانكو الشهير. ونظرا لأهميته نسوق وقائعه ومنطوقه:
تعرضت بنت صغيرة تدعى ايجنز بلانكو لحادث تسببت فيه عربة تابعة لوكالة التبغ الّتي كانت تنقل إنتاج هذه الوكالة من المصنع إلى المستودع. قام ولي البنت برفع دعوى لتعويض الضرر المادي الذي حصل لأبنته أمام المحكمة العدلية أو القضاء العادي على أساس أحكام القانون المدني الفرنسي. إلاّ أنّ وكالة التبغ اعتبرت أنّ النزاع يهم الإدارة وأنّ مجلس الدولة هو صاحب الاختصاص لذلك طالبت بإيقاف النظر في الدعوى حتى تبت محكمة تنازع الاختصاص في هذا الإشكال.
وحال عرض الأمر عليها أجابت محكمة تنازع الاختصاص بتاريخ 08 فبراير 1973 بما يلي:
"حيث أنّ المسؤولية الّتي يمكن أن تتحمّلها الدولة بسبب الأضرار التي يلحقها أعوان المرفق العام بالأفراد لا يمكن أن تخضع لمبادئ القانون المدني الّتي تضبط علاقة الأفراد فيما بينهم.
- حيث أن هذه المسؤولية ليست عامة أو مطلقة بل لها قواعدها التي تتغير حسب مقتضيات المرفق العام وضرورة التوفيق بين مصلحة الدولة وحقوق الأفراد.
- وحيث أصبحت بالتالي السلطة الإدارية وحدها المختصة بالنظر في هذا النزاع وهو ما يجعل قرار رئيس المقاطعة في رفع القضية أمام المحكمة قرار صائبا يستوجب إقراره ".
و هكذا يتضح لنا بما لا يدع مجالا للشك أنّ هذا القرار أحدث هزة لا مثيل لها بخصوص إثبات ذاتية القانون الإداري على اعتبار أنّه مجموعة قواعد تحكم الإدارة العامة وتتضمن أحكاما استثنائية غير مألوفة في مجال روابط القانون الخاص. وإذا نحن أمعنا النظر في حيثيات هذا القرار ومنطوقه نستنج ما يأتي:
1- أنّ هذا القرار أعلن عن وجود قواعد خاصة تحكم نشاط الإدارة بقوله: "حيث أنّ المسؤولية التي يمكن أن تتحمّلها الدولة لا يمكن أن تخضع لقواعد القانون المدني..."، ومنها (أي الحيثية) يفهم أنّ قواعد القانون المدني لم تعد تواكب نشاط الإدارة ولا تليق بطبيعة عملها. لذا وجب استبعادها لعدم صلاحيتها وقصر تطبيقها فقط على الأفراد بحسب ما أشير إليه صراحة. وحين يستبعد القانون المدني يقتضي المنطق القانوني التفكير في قواعد بديلة أكثر ملائمة لطبيعة النشاط الإداري أصطلح على تسميتها فيما بعد بقواعد القانون الإداري.
2- أكد القرار على خضوع الدولة للمسؤولية فعدم خضوعها لقواعد القانون المدني لا يعفيها من تحمل المسؤولية. وفي هذا المسلك مخالفة للقناعة السائدة في ذلك الوقت وهي عدم مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها.
3- أفصح هذا القرار عن المعيار المعتمد لمعرفة طبيعة المنازعة وهل يختص بالفصل فيها القضاء الإداري أم القضاء العادي وهذا المعيار أصطلح على تسميته بمعيار المرفق العام. فهو الّذي فرض مثل هذه القواعد الغير مألوفة في مجال روابط القانون الخاص.
4- أقرّت محكمة التنازع الفرنسية صراحة أنّ القواعد التي يخضع لها المرفق العام غير مستقرة وثابتة بل إنها تتغير كلما فرضت مصلحة المرفق ذلك فهي إذن في حركة مستمرة. و إزالة لكل خوف لدى الأفراد المتعاملين مع الإدارة أعلنت محكمة التنازع إن هذه القواعد الغير مألوفة ينبغي أن يراعي فيها التوفيق بين مصلحة الإدارة وحقوق الأفراد.
5- إنّ هذا القرار التاريخي اعترف للقاضي الإداري بتطبيق قواعد القانون الإداري. ولقد كان لهذا القرار بصمة واضحة ليس من ناحية إقرار مسؤولية الدولة فحسب بل من ناحية تعريف القانون الإداري و تحديد أسسه ورسم نطاقه وولايته كما سنرى ذلك لاحقا.
ومن ذلك كله نستنتج أنّ الازدواج القضائي أدى إلى الازدواج القانوني، أي وجود نوعين من القواعد القانونية. أحدها قواعد القانون الخاص التي تحكم كأصل عام منازعات أشخاص القانون الخاص. وثانيهما قواعد القانون العام التي تحكم المنازعات الإدارية و تستمد كأساس مصدرها من القضاء نفسه. ذلك أنّ قواعد القانون الإداري لم تنشأ بتدخل من المشرّع، ولم يصدرها في شكل منظومة مقننة كالقانون المدني أو التجاري أو الجنائي، وإنما نشأت هذه القواعد تباعا وعلى مدى مراحل طويلة على يد القضاء الفرنسي خاصة.
المطلب الثالث: علاقة القانون الإداري بالقوانين الأخرى
الآن وبعد أن اتّضح لنا المفهوم الفني للقانون الإداري وموقف المشرّع الجزائري منه، وجب تحديد علاقة هذا الفرع من القانون بالعلوم الأخرى ذات الصلة به، وكذا فروع القانون الأخرى وهو سنوضحه في مطلبين اثنين:
المطلب الأول: علاقة القانون الإداري بعلم الإدارة العامة.
تعريف علم الإدارة العامة: عرّف الفقه علم الإدارة على أنّه علم إنساني يعني بوصف و تفسير و بناء و نشاط جهاز الدولة القائم على توفير سياستها العامة بقصد اكتشاف القواعد المؤدية إلى أفضل تشغيل لهذا الجهاز.
ولقد دأبت معظم الدول على إدراج مادة الإدارة العامة ضمن مقرر الدراسة لإعداد شهادة ليسانس في العلوم القانونية و الإدارية. وهنا يثور التساؤل بشأن التمييز بين القانون الإداري و علم الإدارة العامة، نوضح هذه المسألة فيما يلي:
- معنى الإدارة العامة: يتحدّد مفهوم الإدارة العامة تبعا لأحد المعيارين المعيار العضوي أو الهيكلي و المعيار الموضوعي أو الوظيفي.
*المعنى العضوي: و يتجسد في السلطات الإدارية و هياكلها المختلفة سواء المركزية أو اللامركزية وسواء أكانت إقليمية كالولاية أو المحافظة أو مرفقية كالمؤسسة.
*المعنى الوظيفي: ويقصد به النّشاط الذي تباشره هذه الهيئات أو السلطات الإدارية و ما تتمتع به من امتيازات بهدف تحقيق المصلحة العامة. وبظهور هذين المفهومين للإدارة العامة طرح السؤال على المستوى الفقهي هل القانون الإداري قانون الإدارة العامة بالمفهوم العضوي أو الوظيفي؟
لقد احتدم النقاش في الفقه بخصوص أسلم المعيارين في تحديد مفهوم القانون الإداري فقيل أن القانون الإداري بصفة عامة هو ذلك القانون الذي ينطبق على الإدارة العامة بمعناها العضوي و الوظيفي، ويؤخذ على هذا التعريف الشمولية والإطلاق وهو ما شأنه أن يبعدنا عن المفهوم الفني للقانون الإداري.
هذا فضلا على أنّ الإدارة العامة قد تخضع في نشاطها كما قلنا لقواعد القانون الخاص، بل أنها تخضع أيضا لفروع أخرى من القانون كالقانون المالي مثلا.
ويتضمّن علم الإدارة العامة مجموعة المبادئ و الأساليب العلمية الّتي تطبق على الإدارة باعتبارها منظمة ونشاط أي أنّه ينصرف لكل من المدلولين العضوي و الوظيفي.
ومن خلال ما تقدم يتبيّن لنا أنّ العلاقة و ثيقة بين العلمين إلا أنّ الفرق بينهما يكمن في أنّ علم الإدارة يهتم بالإدارة العامة من الزاوية الفنية أي يهتم فقط بالجانب القانوني. يقول Bernard Gournay: " إنّ علم الإدارة يعد أحد الفروع العلوم الاجتماعية الذي يعتني بوصف وشرح وتكوين جهاز الدولة ونشاط وآراء وسلوك الأفراد والجماعات و الأعضاء العاملين فيه. أمّا القانون الإداري فهو نظام له طابع قانوني يتعلّق بدراسة القواعد التي تحكم أعمال الأشخاص الإدارية سواء تعلقت هذه القواعد بنصوص دستورية أو قانونية أو لائحية أو أحكام قضائية.
ولتوضيح ذلك نسوق المثال التالي:
1- في مجال النظرية العامة للموظف: يهتم القانون الإداري مثلا بالموظف العام من زوايا معينة: من هو الموظف العام، ما هي شروط الوظيفة العامة، ما هي حقوقه وواجباته الوظيفية، كيف تنظم ترقيته وتأديبه، ما هي الطرق القانونية لإنهاء العلاقة الوظيفية و غيرها من الموضوعات.
بينما علم الإدارة وإن كان بدوره يهتم بالموظف العام إلا أنّه يركز على جوانب أخرى كدراسة شروط التأهيل للوظيفة دراسة فنية وأكاديمية، وطرق التدريب وكيفياته.
وإذا كان القانون الإداري يعترف للرئيس الإداري بسلطة تنقيط مرؤوسيه، فانّ علم الإدارة يهتم بالكشف عن أفضل السبل لتقدير كفاءة العاملين. وإذا كان القانون الإداري يهتم بالجزاءات أو العقوبات التأديبية و يحدّد أصنافها ودرجاتها، فإنّ علم الإدارة يهتم بمدى نجاعة هذه الجزاءات في دفع عملية الأداء الوظيفي.
ونظرا لهذه العلاقة الوطيدة بين القانون الإداري و علم الإدارة العامة ذهب الدكتور ثروت بدوي إلى القول: " لذلك نرى أنّ دراسة القانون الإداري تشتمل، إلى جانب ما تشمله من جوانب قانونية متصلة بتحديد اختصاصات السلطات الإدارية المختلفة و القواعد القانونية التي تنظم ممارستها لهذه الاختصاصات و التي تحكم علاقتها بالأفراد...الخ نرى أنها تشتمل حتما دراسة بعض أصول علم الإدارة العامة سواء من حيث تطبيق فكرة المركزية الإدارية أو اللامركزية أو من حيث تنظيم الوظيفة العامة.
2- في مجال القرارات الإدارية: يعتبر القرار الإداري فضاءا مشتركا بين كل من القانون الإداري أو علم الإدارة العامة. فنظرية القرار الإداري تعتبر من أهم نظريات القانون الإداري كيف وأنّ أهمية القرار الإداري امتدت إلى مجال المنازعات، فلو أخذنا على سبيل المثال قضاء الإلغاء نجده ينصب بالأساس على فكرة القرار الإداري اعتبارا من أن دعوى الإلغاء ستنصب عليه.
كما أنّ للقرار الإداري أهمية على مستوى علم الإدارة العامة إذ لا يتصور أن تباشر الإدارة كهيكل سواء مركزي أو محلي أو مؤسسة لنشاطها دون اعتمادها على القرار الإداري كوسيلة تسيير وأداة تنظيم وإدارة. و رغم هذه الصلة والعلاقة، إلا أنّ الفرق يظل واضحا بين القانون الإداري و علم الإدارة فيما تعلق بالقرار الإداري. فالقانون الإداري يهتم بنظرية القرار الإداري من حيث مفهوم القرار الإداري و أركانه وآثاره، إبطاله و سحبه ومختلف طرق انتهاءه، بينما علم الإدارة يهتم بمراحل اتخاذ القرار الإداري ومستوياته و المشاركة في القرار.
وعلى حد قول الدكتور محمد عبد الحميد أبو زيد " فإنّ الإداري الناجح هو من يجمع بين دراسة علم الإدارة العامة و القانون الإداري حيث تمكنه دراسة هذا القانون من سرعة إنجاز الأعمال وإفراغها في الصورة السليمة من حيث الشكل أو الجوهر. كما يمكن للباحثين في مجال القانون الإداري الاستفادة مما تكشف عنه دراسات مادة الإدارة العامة من مبادئ تحكم تنظيم الإدارة العامة ونشاطها ".
3- في مجال التنظيم: يهتم علم الإدارة المركزية من حيث تركيبها كما يهتم أيضا بالإدارة المحلية و المفاضلة بين نظام الانتخاب و التعيين ومزايا ومساوئ كل نظام. ويتكفل القانون الإداري بدراسة الهياكل الإدارية من الناحية القانونية. فيبيّن مثلا صلاحيات رئيس الجمهورية في المجال الإداري وصلاحيات الوزير والعلاقة بين الأجهزة المحلية المنتخبة وسلطة الوصاية و غيرها من المسائل القانونية.
ومن خلال ما تقدم يتضح لنا أنّ القانون الإداري يبحث في البناء القانوني للأنظمة الإدارية فهو يدرس تفسير النصوص وشروط تطبيق القواعد وإجراءاتها والحقوق و الالتزامات المترتبة عليها وصحة العقود و القرارات ونظرية الأشخاص.كما يتناول الاعتداءات التي تلحقها الإدارة بحريات الأفراد ومسؤولياتها المختلفة.
أمّا علم الإدارة باعتباره علما مستقلا عن القانون الإداري يهتم بالإدارة العامة من حيث تنظيمها الفنية و يتعرّض للأساليب الإدارية من جوانب عملية سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
وإجمالا نقول أنّ الدراسة القانونية و الفنية تعتبران لازمتان وضروريتان لتقدّم الإدارة العامة تقدما سليما متكاملا. لأنّ القانون الإداري لا يبحث في كل المسائل وكذلك علم الإدارة.
المطلب الثاني: علاقة القانون الإداري بفروع القانون الأخرى.
أولا: علاقة القانون الإداري بالقانون الدستوري.
يعتبر القانون الدستوري و القانون الإداري فرعان لأصل واحد هو القانون العام. بل إنّ العلاقة بينهما هي أعمق من ذلك بكثير لأنهما يعالجان مسألة واحدة هي السلطة التنفيذية مع تناول كل فرع لها من جهة معينة. فالقانون الدستوري يركز و يهتم بالسلطة التنفيذية كجهة حكومية و كسلطة دستورية والقانون الإداري يهتم بها كإدارة أي من الناحية الإدارية.
ولا شك أنّ تنظيم الدستور لصلاحيات السلطة التنفيذية وإبراز هيئاتها القيادية يفرض تدخل القانون الإداري ليبين نشاط الهيئة التنفيذية لذلك قال بيرتلمي Berthelmey: "إن الدستور يبين كيف شيدت الآلة الحكومية أمّا القانون الإداري يبين كيف تسير هذه الآلة وكيف تقوم كل قطعة منها بوظيفتها". وقال ديكروك Ducrocq: " إنّ القانون الدستوري يقرّر المبادئ الأساسية للقانون العام في الدولة أي المبادئ الّتي تضمن للأفراد حقوقهم السياسية و المالية و الدينية و المدنية. أمّا القانون الإداري هو الّذي يضع هذه المبادئ موضع التنفيذ و يحدّد شروط تطبيقها. و بعبارة أخرى فإنّ القانون الدستوري يحتوي على عناوين وموضوعات القانون الإداري".
وقد ترتّب عن هذه العلاقة تعذر الفصل بين القانونين لاشتراكهما وتداخلهما في الكثير من الموضوعات لدرجة أنّ بعض الفقهاء ذهب إلى هدم كل محاولة للتفرقة بين القانونين لأنها تفرقة لا تشيد على صرح الحقيقة ولا تحتوي مدلولا قانونيا واضحا، ويظهر ذلك خاصة في انجلترا.
ولقد تضمّن الدستور الجزائري لسنة 1996 الكثير من القواعد ذات العلاقة المباشرة بالقانون الإداري من ذلك نص المادة 15 الّتي أعلنت عن الجماعات الإقليمية للدولة و هي البلدية و الولاية. و المادة 16 التي اعتبرت المجلس المنتخب قاعدة اللامركزية ومكان مشاركة المواطنين في تسيير الشؤون العمومية. وصنفت المادة 17 الملكية العامة بأنها ملك المجموعة الوطنية وأعلنت عن مشتملاتها المتمثّلة في باطن الأرض و المناجم و المقالع و المواد الطبيعية للطاقة و الثروات الطبيعية و الحية في مختلف مناطق الأملاك الوطنية البحرية و المياه والغابات كما تشتمل النقل بالسكك الحديدية و النقل البحري و الجوي و البريد و المواصلات السلكية و اللاسلكية.
وقسمت المادة 18 الأملاك إلى عمومية وخاصة لكل من الدولة و الولاية والبلدية وأحالت بشأن تسييرها للقانون.
أمّا المادة 20 فقد ثبتت سلطة من سلطات الإدارة هي سلطة النزع معترفة للمنزوع ملكيته بتعويض قبلي عادل ومنصف. وأحالت هي الأخرى بخصوص ممارسة هذه السلطة للقانون.
وألحّت المادة 21 على الطابع العمومي للخدمة ومنعت أن يتخذ منها مصدرا للثراء وحماية للمتعامل مع الإدارة أو الجمهور وعدت المادة 22 بمعاقبة كل متعسّف في استعمال السلطة على أن يتكفل القانون بتنظيم هذه المساءلة.
وأعلنت المادة 23 عن مبدأ جديد لا نجده في الدساتير الجزائرية الأخرى ألا وهو عدم تحيّز الإدارة على أن ينظم هذا المبدأ أيضا بموجب القانون.
وتبرز العلاقة بين القانون الدستوري و الإداري في مواد كثيرة أخرى من دستور 1996. فهذه المادة 29 أرست مبدأ مهما ألا وهو مبدأ المساواة أمام القانون الّذي يتفرع عنه مبدأ المساواة أمام المرافق العامة وهو الآخر أحد أهم مبادئ القانون الإداري، الذي يفرض على الإدارة العامة ألا تميّز بين فئة المنتفعين من خدماتها سواء بناءا على المولد أو العرق أو الجنس أو الرأي أو أيّ شرط أو سبب آخر.
أمّا المادة 30 فخصصت للجنسية الجزائرية وأحالت بشأن أنواعها واكتسابها و فقدانها للقانون. ومن البديهي أنّ الجنسية تعتبر أحد أهم شروط تقلّد الوظائف العامة أيا ما كانت طبيعة الوظيفة.
وإذا كانت المادة 41 من الدستور قد أعلنت عن حرية التعبير وإنشاء الجمعيات و ممارسة حرية الاجتماع. فإنّ التمتّع بممارسة هذه الحريات يتوقف على ترخيص من الإدارة المختصة كصورة من صور أعمال الضبط الإداري.
وكذلك الحال بالنسبة للمادة 42 الّتي أعلنت عن حق إنشاء الأحزاب السياسية فانّ الإنشاء متوقف عن عمل إداري يتمثّل في قرار صادر عن وزير الدولة وزير الداخلية.
واعترفت المادة 43 بحق إنشاء الجمعيات أو ما يسمى بالنشاط الجمعوي. ويفرض هذا الإنشاء تدخّل جهة الإدارة كجهة تنظيمية و ضبطية.
واعترفت المادة 44 لكل مواطن بأن يختار محل إقامته وبأنّ دخوله و خروجه من التراب الوطني مضمون و في كلا الوضعيتين إقامة أو خروجا يفرض القانون تدخل جهة الإدارة المعنية (بلدية، دائرة) بغرض الحصول على الوثائق المثبتة للوضعية و لممارسة حرية ما.
وضمن دائرة الحقوق السياسية أعلنت المادة 50 عن حق الترشيح والانتخاب. و من المؤكد أنّ ممارسة هذين الحقين يتطلب تدخل جهات إدارية كثيرة مركزية و محلية كرئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزارة الداخلية و الولايات والبلديات.
و صرحت المادة 51 بمبدأ المساواة في تقلد الوظائف العامة و حظرت التمييز أيا كان شكله مع إجازة وضع شروط قانونية لتقلد كل وظيفة حسب طبيعتها وحسب التصنيف و المهام. وكرست المادة 56 الحق النقابي وهو أيضا يمارس داخل الإدارات العمومية (مركزية، محلية، مرفقية).
كما كرست المادة 57 حق الإضراب وهو الآخر يمارس في مجال الإدارات العمومية كما يمارس في القطاع الخاص.
وجاءت المادة 77 محددة لسلطات و صلاحيات رئيس الجمهورية ومن بين الصلاحيات ذات الصلة بالقانون الإداري تعيينه لرئيس الحكومة وإنهاء مهامه. ورئاسته لمجلس الوزراء. فرئيس الجمهورية إلى جانب أنه شخصية سياسية فهو أيضا شخصية إدارية. و بناءا على هذه الصفة الأخيرة اعترفت له المادة 78 من الدستور بالتعيين في وظائف الدولة السامية، ويتعلّق الأمر بتعيين الوزراء و الأمناء العامين للوزارات و القضاة و الولاة...
ويمارس رئيس الحكومة وظائف إدارية كالتعيين في المناصب السامية في الدولة خارج نطاق التعيينات الرئاسية، وتوزيع المهام بين الوزراء ورئاسة مجلس الحكومة و هو ما حددته المادة 85 من الدستور.
واعترفت المواد 91 و 92 و 93 لرئيس الجمهورية بممارسة سلطة الضبط الإداري سواء في حالة الطوارئ أو الحصار أو الحالة الاستثنائية وهو ما سنفصل فيه عند التطرق لنشاط الضبط الإداري.
ومن هذا الكم الهائل من المواد الواردة في دستور 1996 ذات العلاقة بالمجال الإداري يتبين لنا مدى عمق الصلة بين القانون الإداري و القانون الدستوري. فلا يمكن بحال من الأحوال الفصل بينهما أو حتى محاولة إنكار هذه العلاقة الوطيدة.
ومع اختلاف قواعد و مجال اختصاص كل من القانون الدستوري و القانون الإداري، إلا أنّ العلاقة بينهما تظل قائمة لذلك قيل " إنّ روح دراسة كل من القانون الدستوري و القانون الإداري في دولة ما تعتبر واحدة حتى يمكن تشبيه القانون الدستوري بأنه الصوت و القانون الإداري هو الصدى". وقيل أيضا أنّ الوظيفة العامة بذاتها وعن طريق الموظفين هي الأداة التي تسوس الحريات بجميع صورها و شتى مظاهرها الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية.
ثانيا: علاقة القانون الإداري بالقانون المدني وقانون الأسرة.
مما لا شك فيه أنّ القانون المدني يعتبر من أقدم فروع القانون، وأنّ قواعده تعد بمثابة شريعة عامة فيما يحكم روابط وعلاقات الأفراد خاصة في الجانب المالي و في مختلف أوجه التصرف سواء بالبيع أو الإيجار أو الرهن...
إنّ أبرز ميزة للقانون المدني أنه قانون المساواة و التوازن فهو ينظر لأطراف العلاقة القانونية نظرة واحدة و لا يفاضل بين مصلحة وأخرى، أو أن يزود متعاقد بسلطة حيال المتعاقد الآخر.
أمّا في مجال القانون الإداري فان العلاقة أو المراكز القانونية ينظر إليها بشكل مختلف تماما عما هو سائد في القانون المدني. فالإدارة باعتبارها طرفا في علاقة ما تحظى بمركز متميز و تمارس بموجبه جملة من السلطات تجاه الأفراد فهي تصدر القرارات الإدارية بإرادتها المنفردة ودون مشاركة الأفراد المعنيين بالقرار، بل وحتى دون رضاهم، ومع ذلك يلزم هؤلاء بتنفيذ هذا القرار و لا يجوز لهم التصدي تجاهه وإلا خضعوا للعقوبة الّتي حددها القانون.
كما أنّ الإدارة في مجال التعاقد لا تخضع لما هو سائد في القانون المدني بأنّ العقد شريعة المتعاقدين، بل يجوز لها من منطلق أنها سلطة عامة أن تعدل العقد الإداري بإرادتها المنفردة.ومن سلطتها أيضا أن توقع الجزاء المالي على المتعاقد معها دون حاجة للجوء للقضاء. و يجوز لها أن تفسخ العقد بإرادتها المنفردة دون أدنى داع لرفع دعوى الفسخ.
و تملك الإدارة أدوات ضغط كثيرة تجاه المتعاقد معها منها و سيلة التنفيذ الفوري لمضمون عقد التوريد على حساب المتعاقد مع الإدارة و هذا في حالة إخلال بالتنفيذ. وهذه الأحكام في مجموعها لا مثيل لها على صعيد القانون المدني وهي الّتي تضفي على القانون الإداري طابعا خاصا و مميزا كيف لا وقد أطلق على قواعده بالاستثنائية وغير المألوفة.
وينبغي الإشارة أنّ قواعد القانون الإداري بدأت تظهر للوجود بعد أن وصل الفقه إلى تحديد مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها مع قناعته أنّ القواعد التي تخضع لها ليست هي قواعد القانون المدني، بل قواعد بديلة تراعي مركز الإدارة و خصوصيتها. ورغم استقلالية القانون الإداري عن القانون المدني على نحو تقدم شرحه و بيانه، إلا أنّ العلاقة بينهما قائمة ولا يمكن هي الأخرى إنكارها بأي حال من الأحوال.
ومن أبرز صور العلاقة أنّ القانون المدني هو من يعلن عن الوجود المدني وعن الشخصية القانونية لأهم الجهات الإدارية كالدولة و الولاية و البلدية و المؤسسة العمومية ذات الطابع الإداري فهذه المادة 49 (تعديل 2005) اعترفت بالشخصية الاعتبارية لكل هذه الجهات المذكورة حتى تمكنها من مزاولة نشاطها و القيام بوظيفتها ويتم بموجب هذه الشخصية الاعتبارية الاعتراف لها بذمة مالية مستقلة وبأهلية التعاقد وبأهلية التقاضي و بنائب يعبر عن إرادتها و بموطن وهو ما ذكرته المادة 50 من القانون المدني.
ولا يتصور أبدا أن تمكن الجهة الإدارية سواء كانت مركزية أو محلية أو مرفقيه من القيام بوظيفتها و تلبية حاجات الأفراد دون توظيف وإعمال عناصر الشخصية الاعتبارية الواردة في القانون المدني.
واعترفت المادة 52 (تعديل 2005) لوزير المالية بأن يمثل الدولة في حالة المشاركة المباشرة في العلاقات التابعة للقانون المدني. ولم يكتف القانون المدني بإضفاء الطابع المدني لأشخاص القانون الإداري بل إلى جانب ذلك كفل حماية مدنية للأموال العامة بموجب المادة 689 منه، فلم تجز التصرف فيها أو حجزها أو تملكها بطريق التقادم وهذا بغرض المحافظة عليها من الزوال. إذ بغير هذه المادة لصار من الممكن الحجز على الممتلكات العامة المستخدمة لأداء النشاط الإداري من قبل القائم بالتنفيذ بما يشل يد الإدارة في تلبية الخدمة العامة وهو ما ينعكس سلبا على المنتفعين من خدمات المرفق العام. وبغير هذه المادة (689) من القانون المدني لصار جائزا التصرف في الأموال العامة بما يؤدي في النهاية إلى ضعف الوسائل المسخرة للإدارة لتلبية الخدمة العامة.
إن بسط الحماية المدنية الثلاثية من عدم جواز التصرف وعدم جواز الحجز وعدم جواز التملك بطريق التقادم يؤدي في النهاية إلى المحافظة على المال العام المملوك للمجموعة الوطنية.
وتضمنت قواعد القانون المدني أحكام المسؤولية في مجال الوظيفة العامة، فهذه المادة 129 (تعديل 2005) أقرّت بصراحة عدم مسؤولية الموظف العام الشخصية عن أفعاله التي تحدث ضررا بالغير إذا ثبت أن قيامه بها كان نتيجة تنفيذه لأوامره سلمية صدرت إليه.
وليس هناك أي مانع أمام القاضي الإداري أن يتبنى قواعد المسؤولية الشخصية أو المسؤولية عن الأشياء الواردة في القانون المدني. إنّ العلاقة بين فروع القانون الخاص و القانون الإداري لا تتوقف عند العلاقة بين القانون الإداري و المدني بل تمتد لفروع أخرى كقانون الأسرة. إذ أنّ القاضي الإداري قد يطبق على النزاع المعروض عليه أحكام و قواعد قانون الأسرة.
وكمثال تطبيقي القرار الصادر عن الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا بتاريخ 1997.01.05 قضية م.م ضد مديرية التربية لولاية البويرة الملف رقم 131778 أين طبق القاضي الإداري أحكام الكفالة الواردة في القانون المدني. وكذلك قرار المحكمة العليا في غرفتها الإدارية بتاريخ 19.01. 97 الملف رقم 116191 قضية ورثة ح.أ ضدّ رئيس المجلس الشعبي البلدي لعين العصافير ولاية باتنة إذا طبق القاضي الإداري على النزاع المعروض عليه أحكام الهبة الواردة في قانون الأسرة،.وكثيرة هي القضايا التي طبق عليها القضاء الإداري قاعد القانون الخاص.
واعترفت المادة 677 من القانون المدني للإدارة في الحالات الّتي حدّدها القانون وضمن شروطه وكيفياته بنزع الملكية العقارية مقابل تعويض عادل ومنصف و في حالة الاختلاف بشأن مبلغ التعويض جاز اللجوء للقضاء لتحديده.
كما اعترفت المادة 679 من ذات القانون للإدارة أن تمارس سلطة الاستيلاء.. وبينت المادة 680 الجهة الإدارية الممارسة لهذه السلطة وحددها كأصل عام بوالي الولاية أو أي جهة أخرى مؤهلة قانونا.
ثالثا: علاقة القانون الإداري بالقانون الجنائي.
قد يبدو لأول وهلة أن لا علاقة للقانون الإداري بالقانون الجنائي اعتبارا من أنّ الأول قانون سلمي لا يهتم بالسلوك الجرمي أيا ما كانت درجة خطورته، بينما الثاني يهتم بظاهرة الجريمة و يحدد لها عقابا مناسبا. غير أنّ مثل هذا التصور
و الحكم يتبدّد إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أنّ ظاهرة الجريمة موجودة في كل محيط بشري. وليس المحيط الإداري ببعيد عن ظاهرة الجريمة. بما ينبغي معه أن يتعرض مقترف الفعل الإجرامي للعقوبة التي يحددها القانون.
ورجوعا لقانون العقوبات الجزائري ولنص المادة 144 (القانون رقم 01/09المؤرخ في 26 جوان 2001) نجدها قد حددت عقوبة تتراوح من شهرين إلى سنتين و بغرامة من 1.000 دج إلى 500.000 دج أو بإحدى هاتين العقوبتين لكل من أهان قاضيا أو موظفا عموميا أو قائدا، أو أحد رجال القوة العمومية بالقول أو الإشارة أو التهديد أو بإرسال أو تسليم أي شيء إليهم بالكتابة أو الرسم غير العلنيين أثناء تأدية وظائفهم أو بمناسبة تأديتها وذلك بقصد المساس بشرفهم أو باعتبارهم أو الاحترام الواجب لسلطتهم.
وشددت المادة 148 في العقوبة من سنتين إلى 5 سنوات إذا حدث الاعتداء بالعنف أو القوة. كما وضعت المادة 155 عقوبة لمن يبادر إلى كسر أختام السلطة العمومية تتراوح من 6 أشهر إلى 3 سنوات. وكفلت المادة 158 لسجلات السلطات العمومية و عقودها و سنداتها حماية خاصة ضد الاعتداء عليها محددة عقوبة لهذا الفعل من 5 إلى 10 سنوات.
وجرّمت المادة 175 فعل التعرض لحرية المزايدات و المناقصات ووضعت لها عقوبة تتراوح من شهرين إلى 6 أشهر و بغرامة من 500 إلى0 200.00 دج.
وبينت المادة 183 جريمة العصيان باعتبارها شكلا من أشكال الهجوم على الموظفين أو ممثلي السلطة العمومية عندما يقومون بتنفيذ الأوامر و القوانين واللوائح. وحددت المادة 184 عقوبة للفاعل من 3 أشهر إلى سنتين و بغرامة من 500 إلى 1000 أو بإحدى هاتين العقوبتين. و شددت المادة 185 في العقوبة إلى ثلاثة سنوات في حدها الأقصى إذا وقع العصيان لأكثر من شخصين.
وحددت المادة 205 و 206 عقوبة من 5 سنوات إلى 20 سنة لكل من قلد أو زور طابعا وطنيا (ختما) أو دمغة أيا كانت المادة المستعملة. وجرمت المادة 214 فعل التزوير في المحررات العمومية أو الرسمية محددة أقصى عقوبة لها تتمثل في السجن المؤبد إذا وقعت من جانب الموظف وهذا إما بوضع توقيعات مزورة أو بإحداث تغيير في المحررات أو الخطوط أو بالكتابة في السجلات و غيرها من أشكال التزوير.
أمّا المادة 222 من قانون العقوبات فقد جرمت هي الأخرى فعل التزوير في الوثائق و الشهادات ووضعت لها عقوبة تترواح من 6 أشهر إلى 3 سنوات وغرامة من 1500 دج إلى 15000 دج. كما جرّمت المادة نفسها استعمال المزور مع تبيانها لصور هذا الاستعمال.
وجرمت المادة 223 فعل الحصول على وثائق إدارية بتصريحات كاذبة كالايصالات وجواز السفر و غيرها ووضعت لها عقوبة من 3 أشهر الى 3 سنوات و غرامة من 500 إلى 5000 دج.
وبيّنت المادة 242 من نفس القانون جريمة انتحال الوظائف العمومية ووحدت لها عقوبة من سنة إلى 5 سنوات. كما بينت المادة 244 أشكال الانتحال.
وكفلت المادة 301 من قانون العقوبات حماية خاصة لأسرار الوظيفة وجرمت الموظف في حال إفشاء هذه الأسرار ووضعت عقوبة لهذا الفعل تتراوح من شهر إلى 6 أشهر. وبينت المادة 350 من نفس القانون العقوبة المقررة لفعل السرقة وهذا بشكل عام ينطبق وصفه في المجال الإداري.
أمّا المادة 444 فقد كفلت حماية للطريق العام حتى لا يتأثر الجمهور في استعماله. وجرمت فعل وضع أو ترك مواد أو أشياء في الطريق العام محددة عقوبة الغرامة من 100 إلى 1000 دج. وجرمت المادة 453 فعل مخالفة اللوائح التنظيمية وحددت له عقوبة من 50 إلى 200 دج.
كما جرمت المادة 459 فعل مخالفة المراسيم و القرارات المتخذة قانونا من جانب السلطة الإدارية وان كانت قد وضعت لها عقوبة لا تنسجم مع درجة المخالفة وحددتها بما لا يزيد عن 3 أيام حبس.
وبالرجوع للقانون رقم 06 -01 المؤرخ في 20 فبراير 2006 المتعلّق بالوقاية من الفساد ومكافحته نجد المادة 6 منه ألزمت كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وأعضائها و الولاة و غيرهم بالتصريح خلال الشهرين الموالية للانتخاب أو التعيين وهذا أمام الرئيس الأول للمحكمة العليا. وهؤلاء الأشخاص المشمولين بالمادة السادسة من القانون المذكور هم يمارسون مهاما إدارية. وجاءت المادة 9 من ذات القانون لترسي المبادئ الأساسية لإبرام الصفقات العمومية كمبدأ علانية المعلومات المتعلقة بالصفقة و مبدأ الشفافية ومبدأ المنافسة الشريفة المبنية على أسس ومعايير موضوعية.
و اعترفت نفس المادة بحق الطعن بالنسبة لكل مترشح في حال عدم احترام الإدارة لقواعد إبرام الصفقة العمومية.
وبينت المادة 11 من القانون 06-01 مظاهر الشفافية في التعامل مع الجمهور من الحصول على المعلومات تتعلق بتنظيم الإدارة و سيرها. وتبسيط هذه الإجراءات وبنشر المعلومات والرد على العرائض و الشكاوي و تسبيب القرارات الإدارية و تبيان طرق الطعن فيها.
وجرمت المادة 25 منه فعل الرشوة ووضعت عقوبة له تراوحت بين سنتين إلى عشر سنوات و بغرامة من 200.000 دج إلى 1.000.000 دج.
كما جرّمت المادة 26 فعل الامتيازات غير المبررة في مجال الصفقات العمومية ووضعت له ذات العقوبة. وجرم المشرّع فعل الرشوة في مجال الصفقات ووضع له عقوبة تتراوح من 10 إلى 20 سنة و بغرامة من 1.000.000 دج إلى 2.000.000 دج وهذا ما أعلنت عنه المادة 27 من نفس القانون.
أمّا المادة 29 فقد جرمت فعل اختلاس الممتلكات من قبل الموظف أو استعمالها على نحو غير شرعي ووضعت لها عقوبة تتراوح من سنتين إلى عشر سنوات و غرامة من 200.000 إلى 1.000.000 دج. وذات العقوبة قررت لجريمة الغدر المرتكبة من قبل الموظف العام حين يقبل على تلقي أو اشتراط أو أن يأمر بتحصيل مبالغ مالية يعلم أنها غير مستحقة الأداء سواء لنفسه أو لصالح الإدارة أو لصالح الأطراف، وهذا ما ورد صراحة في نص المادة 30 من القانون المذكور.
وجرمت المادة 31 فعل التخفيض الغير قانوني للضريبة و الرسم الذي يقبل عليه موظف إدارة الضرائب وحددت له العقوبة من 5 إلى 10 سنوات و غرامة من 500.000 دج إلى 1.000.000 دج.
أما المادة 32 فقد جرمت فعل استغلال النفوذ من جانب الموظف ووضعت لهذه الجريمة عقوبة تتراوح من سنتين إلى 10 سنوات و بغرامة من 200.000دج إلى 1.000.000 دج.
وجرّمت نصوص كثيرة أفعالا لها علاقة بممارسة الوظيفة العامة من ذلك جريمة أخذ فوائد بصفة غير قانونية موضوع المادة 35 من القانون 01/06. والثراء غير المشروع موضوع المادة 37، وتلقى الهدايا موضوع المادة 38.
ومن هذا الكم الهائل من النصوص سواء المقرّرة في قانون العقوبات الجزائري أو في قانون الوقاية من الفساد ومكافحته نستنتج مدى عمق العلاقة بين القانون الإداري و القانون الجنائي. فالقواعد الجزائية أيا كانت منظومتها القانونية متى تعلقت بمجال الإدارة العامة فهي مسخرة لاشك لحماية الموظف من الغير، وحمايته من نفسه، حتى لا يقبل على ارتكاب أفعالا جزائية مستغلا في ذلك صفته الوظيفية. كما أنّ هذه القواعد الجزائية تحمي أموال الإدارة وممتلكاتها من كل فعل أو سلوك يؤدي إلى اختلاسها أو تبديدها أو نقل الانتفاع بها إلى الغير من غير مبرر أو مسوغ من القانون، لذلك ظهرت تسمية أخرى لفرع جديد من القانون هو القانون الجنائي الإداري.
ملاحظة قواعد قانون العقوبات في الدول العربية متشابهة يمكن الاستشهاد بأي قانون
رابعا: علاقة القانون الإداري بقانون الإجراءات المدنية والإدارية.
للقانون الإداري وثيق الصلة بقانون الإجراءات المدنية هذا الأخير الذي نظمت قواعده الدعوى أمام القضاء من حيث شروطها وقواعد الاختصاص (النوعي و المحلي) و سيرها وأدلة الإثبات وإصدار الأحكام وتنفيذها وطرق الطعن فيها.
وطالما كانت الإدارة غير بعيدة عن النزاع إذا الغالب أنها طرف مدعى عليه، فهي معنية هي الأخرى بالخضوع لقانون الإجراءات المدنية الصادر كمرحلة أولى بموجب الأمر 66-154 المؤرخ 8 جوان 1966 المعدل و المتمم. وكمرحلة ثانية بموجب القانون08/09. المؤرخ في 25 فبراير2008 المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية.
وبالعودة للأحكام المقرّرة في هذا القانون نجد المادة 7 من قانون الإجراءات الأول مثلا بينت الاختصاص النوعي للمجالس القضائية فاصلة بين الاختصاص الغرف الجهوية و الغرف المحلية. فعقدت الاختصاص بالنظر في دعوى الإلغاء ودعوى التفسير ودعوى فحص المشروعية الخاصة بالقرارات الصادرة عن الولايات (هكذا إطلاقا) للغرف الجهوية الخمس وهي: الجزائر ووهران و بشار و قسنطينة وورقلة. أمّا الغرف المحلية الموجودة إلى حد الآن على مستوى 35 مجلسا قضائيا فتختص بالنظر في دعاوى الإلغاء ودعاوى التفسير ودعاوى فحص المشروعية الموجهة ضد القرارات الصادرة عن رؤساء المجالس الشعبية البلدية وعن المؤسسات العمومية ذات الصيغة الإدارية. كما تختص بالنظر في دعاوى المسؤولية المدنية للدولة و الولاية و البلدية و المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية و الرامية لطلب التعويض.ورسمت المواد من800الى 806 من القانون الجديد الاختصاص النوعي للمحاكم الإدارية وكذلك الاختصاص الإقليمي.
وتبرز العلاقة في القانون الإداري بقانون الإجراءات المدنية والإدارية من حيث أنّ هذا الأخير هو الذي يبيّن تشكيلة المحكمة الإدارية و سلطة القاضي الإداري، و سير الجلسات وإجراءات المنازعة الإدارية وأدلة الإثبات وإصدار الأحكام في المادة الإدارية والطعن فيها. وكذلك يبين قانون الإجراءات المدنية الأصول الإجرائية لتنفيذ الأحكام القضائية. وجدير بالإشارة أنّ القانون 98-01 أحال بخصوص الإجراءات لقانون الإجراءات المدنية و هذا ما نصت عليه المادة 40 منه. كما أنّ القانون 98-02 كرس هو الأخر هذه الإحالة بموجب المادة 2 منه بما يؤكد أنّ قانون الإجراءات المدنية في الجزائر و حتىّ اليوم هو القانون العام في المادة الإجرائية.
خامسا: علاقة القانون الإداري بالقانون الدولي العام.
إن العلاقة بين القانون الإداري و القانون الدولي العام تبرز من خلال اهتمام كلا القانونين بالدولة كأحد أهم أشخاص القانون العام. غير أنّ مجال اهتمام القانون الإداري بها ينحصر بالأساس في النّشاط الداخلي ذو الطبيعة الخاصة أي الدولة باعتبارها صاحبة السيادة و السلطان، لا الدولة باعتبارها شخصا من أشخاص القانون الخاص.
بينما يهتم القانون الدولي العام بنشاط الدولة الخارجي مع بقية الدول في المجتمع الدولي وكذلك في علاقتها مع المنظمات الدولية، فكأنما القانونين ينظمان نشاط شخص معنوي عام واحد هو الدولة، لكن ضمن مجالين مختلفين، مجال للنشاط الداخلي تكفل به القانون الإداري. ومجال للنشاط الخارجي تكفل بتنظيمه القانون الدولي العام. ورغم التباعد في المجال، بل في طبيعة القواعد، إلا أنّ العلاقة بين القانون الإداري و القانون الدولي العام تظل قائمة لا يمكن إنكارها، ذلك أنّه لو نظرنا لمجال المنازعات الإدارية فانّه للإمكان أن نتصور أنّ القاضي الإداري كما يطبق نصا داخليا كقانون الوظيفة العامة أو قانون نزع الملكية أو القوانين العقارية أو قانون المالية قد يطبق نص معاهدة دولية على النزاع المعروض عليه إذا كانت الجزائر طرفا فيها ولقيت مصادقة من الجهات المخولة قانونا و تعلقت قواعدها بالنزاع الإداري المعروض على القاضي.
ويعود تأسيس إلزام القاضي الإداري بتطبيق نص المعاهدة إلى المادة 132 من الدستور و التي جعلت للمعاهدة المصادق عليهما من قبل رئيس الجمهورية بعد عرضها على البرلمان مرتبة ومركزا يعلوا القانون. فإذا كان القاضي الإداري ملزم بتطبيق القانون، فانّ إلزامه بتطبيق نص المعاهدة يكون من باب أولى اعتبارا من أنّ المعاهدة تعلو القانون.
فلو تصورنا أنّ نص المعاهدة تعلّق بحماية الموظف العام في مجال المساءلة التأديبية وكرّست المعاهدة إجراءا جديدا عندها يلزم القاضي الإداري بتطبيق هذا النّص اعتبارا أنه يعلو التشريع الداخلي.
وليس القاضي الإداري وحده من يطبق نصوص المعاهدة بل القاضي التجاري و القاضي العمالي و القاضي الشخصي و القاضي البحري و غير هؤلاء من القضاة متى كانت الواقعة المعروضة على القاضي مشمولة بنص المعاهدة، وإلا فما الفائدة أن يصادق رئيس الجمهورية على المعاهدة بعد عرضها على البرلمان ولا تنفذ من قبل الجهات المعنية و منها القضاء.
ونظرا للعلاقة الكبيرة بين القانون الإداري و القانون الدولي العام ظهر إلى حيز الوجود فرعا جديدا من فروع القانون هو القانون الدولي الإداري خاصة وأنّ المجتمع الدولي يسير بخطى ثابتة من أجل توحيد التشريعات في المجال الواحد ومنه الإداري.
وتتجلى لنا تطبيقات القضاء الإداري الجزائري للنصوص الدولية و الخارجية من خلال قرار مجلس الدولة الغرفة الخامسة ملف رقم 002111 بتاريخ 08-05-2000 قضية يونين بنك ضد محافظ نبك الجزائر، و تتلخص وقائع هذه القضية أنّ اللجنة المصرفية ببنك الجزائر رفضت توكيل المحامية الفرنسية المسماة جوال موسار مسجلة بنقابة المحامين لباريس بحجة أنها لم تقدّم رخصة لممارسة نشاط الدفاع بالجزائر مسلّمة من قبل نقيب المحامين وفق ما تنص على ذلك المادة 6 من القانون 04.91 المؤرخ في 1991.01.08 المتضمن تنظيم مهنة المحاماة، غير أنّ هيئة الدفاع ليونين بنك تمسكت بتطبيق المادة 16 من البروتوكول القضائي المبرم بين الجزائر و فرنسا بتاريخ 1962.08.28 والذي يعفي المحامي الفرنسي من تقديم رخصة للمرافعة أمام الجهات القضائية الجزائرية و يلزم فقط باختيار مقر محامي. وقد قامت المحامية الفرنسية باختيار مقر محامي هو الأستاذ عبلاوي و بالتالي احترمت سائر الإجراءات المنصوص عليها في البروتوكول القضائي. وعليه انتهى مجلس الدولة إلى إبطال القرار المطعون فيه.
سادسا: علاقة القانون الإداري بالقانون المالي.
يهتم القانون المالي أو علم المالية العامة كما يطلق عليه بجوانب النشاط المالي للدولة سواء تعلّق هذا النشاط بالنّفقات العامة للدولة أو بإيراداتها العامة أو بميزانيتها من أجل الوصول إلى إشباع الحاجات العامة.
ومن هنا تبدو العلاقة قائمة بين القانون المالي و القانون الإداري، فالأجهزة الإدارية المختلفة سواء مركزية (الوزارات) أو المحلية (الولايات و البلديات) أو المرفقية (المؤسسات العمومية الإدارية) و غيرها من الهيئات، تحتاج لممارسة نشاطها لنفقات عامة تمكنها من أداء مهامها المختلفة بهدف إشباع حاجات الأفراد و القيام بأعباء السلطة العامة.
من أجل ذلك يقف سنويا أمام البرلمان مختلف الوزراء بغرض الحصول على الإعتمادات المالية لقطاعاتهم وهذا تطبيقا للمادة 122 من الدستور الفقرة 12.
إنّ العلاقة الوطيدة بين القانون المالي و القانون الإداري تتضح من خلال اهتمام القانون الإداري بالمال العام والمال الخاص المملوك للدولة و هيئاتها المختلفة. كما يهتم بنزع الملكية و هو محور أيضا يلقى اهتماما لدى المختصين في العلوم المالية عند البحث خاصة في جانب الإيرادات.
كما أنّ العلاقة تبرز أيضا من خلال منازعات الضرائب فهي تصنف في النظام القضائي الجزائري على أنها منازعات إدارية يؤول الاختصاص بالنظر فيها للقاضي الإداري.
ولقد نجم عن هذه العلاقة الكبيرة و الوثيقة بين القانون الإداري و القانون المالي أنّ بعض المختصين في القانون سواء في فرنسا أو الجزائر أو مصر ساهموا في إصدار مؤلفات في المالية العامة..
وتبرز العلاقة بين القانون الإداري و القانون المالي أن تنفيذ الأحكام الإدارية فيما يتعلق بالجانب المالي منها تنفذ عن طريق الخزينة العامة وهذا طبقا للقانون 02/91 المؤرخ في 8 جانفي 1991. حيث يلزم من صدر الحكم لصالحه ضد إدارة عمومية بإيداع نسخة تنفيذية من الحكم وكل الوثائق و المستندات التي تثبت بأن جميع المساعي لتنفيذ الحكم بقيت دون جدوى لمدة شهرين. وعندها يقوم أمين الخزينة تلقائيا بالأمر بسحب المبلغ من حساب الهيئة المحكوم عليها لصالح الطرف الدائن.
وانطلاقا من هذا الدور ساهمت الخزينة العمومية وهي جهاز تابع وصائيا لوزارة المالية بتنفيذ الأحكام في المادة الإدارية بما يؤكد العلاقة بين القانون الإداري و القانون المالي.
المبحث الثاني:خصائص القانون الإداري
يتميّز القانون الإداري بمجموعة خصائص أضفت عليه طابعا مميزا و جعلت منه قانونا مستقلا وله ذاتيته الخاصة. ومن هذه الخصائص أنه حديث النشأة يتسم بالمرونة ودائم الحركة كثير التطور إلى جانب ذلك أنّه قانون غير مقنن ومن منشأ قضائي نوجز هذه الخصائص فيما يأتي:
المطلب الاول:القانون الإداري حديث النشأة:
سبق القول عند الحديث عن نشأة القانون الإداري أنّ هذا الفرع من القانون ظهر للوجود على يد محكمة التنازع ومجلس الدولة الفرنسيين ابتداء من المرحلة التي أعترف فيها لمجلس الدولة بالسلطة التقريرية ولم يعد جهة رأي واقتراح.
ومعنى ذلك أنّه قبل 1872 لا يمكن الحديث في علم القانون عن فرع اسمه القانون الإداري بالمعنى الفني كمجموعة قواعد استثنائية غير مألوفة في مجال القانون الخاص تحكم نشاط الإدارة و تنظيمها ومنازعاتها.
ولقد قلنا سابقا أنّ نشأة هذا القانون بالذات ارتبط بالظروف السياسية التي مرت بها فرنسا. وهذا أمر طبيعي طالما كان القانون الإداري يحكم السلطة التنفيذية في تنظيمها و عملها وعلاقاتها و منازعاتها.
ولا شك أنّ هذه السلطة في الزمن السابق للثورة كانت على الغالب الأعم لا تخضع للرقابة القضائية. ولا يسأل أعوانها عما سببوه من ضرر للغير. ومع التطور الذي طرأ على المجتمع الفرنسي خاصة بعد الثورة أصبحت الإدارة تسأل عن أعمالها التي تسبب ضررا للغير. وتخضع في نشاطها للرقابة القضائية. وهو ما ثبت عملا كما رأينا في قضية بلانكو الشهيرة.
وهكذا فإن تغير نمط الحكم في فرنسا عقب الثورة وما تبعه من تشريعات كان له أثر كبير في ظهور القواعد الغير مألوفة أو القانون الإداري بالمعنى الفني. وحري بنا التنبيه أنّ حداثة نشأة هذا الفرع من القانون شكلت ولو نسبيا عائقا يقف وراء غموض كثير من مصطلحاته إلى غاية اليوم نذكر منها المرفق العام والسلطة العامة و المنفعة العامة...الخ
ورغم الجهود المبذولة من قبل الفقه و القضاء في فرنسا وخارجها فان بنيان هذه القانون لم يكتمل بعد.
المطلب الثاني: القانون الإداري يتسم بالمرونة و التطور:
لماّ كان القانون الإداري يهتم أساسا بالإدارة العامة ويحكم نشاطها فانّه تبعا لذلك وجب أن يكون قانونا متطورا لا يعرف الاستقرار ذلك أنّه ما صلح للإدارة اليوم قد لا يكون كذلك في وقت لاحق.
وتأسيسا على ذلك وجب أن يتكيف هذا القانون مع متطلبات الإدارة وفقا لما يتماشى ووظيفتها في إشباع الحاجات العامة للجمهور. وهذا الهدف وحده نراه في حركة دءوبة ودائمة. الأمر الذي سينعكس في النهاية على أحكام ومبادئ القانون الإداري فيجعلها قابلة للتطور و التغيير.
وإذا كانت قواعد القانون المدني و التجاري و البحري مثلا رغم ثباتها النسبي قابلة للتعديل من زمن إلى آخر، كلما اقتضى الأمر ذلك، فإنّ قواعد القانون الإداري و هي التي تتسم بعدم قابليتها للتقنين و الحصر كأصل عام ستفسح مجالا في حالات كثيرة للإدارة لاختيار القاعدة التي تليق بها. كما أنّ القضاء ذاته صرح في كثير من أحكامه و قراراته ومنها بلانكو المشار إليه أنّ أحكام هذا القانون قد تتغير بحسب مقتضيات المرفق العام.
ولا نجانب الصواب عند القول أنّ هذه المرونة كانت أحد أهم الأسباب التي حالت وتحول دون تقنين القانون الإداري. فإذا كانت خطوات الفرد وعلاقته محدّدة ومعلومة ويمكن معرفتها و التنبؤ بها وتنظيمها بمقتضى نصوص رغم تشعبها، فإنّ الأمر لا يكون كذلك إذا دخل في الاعتبار عنصر الإدارة العامة مما يتعذر معه التنبؤ بالنشاط مسبقا، وبالظروف المحيطة به، وتفاعل الإدارة مع هذه الظروف، وموقف القاضي منها...
ولا شك أن هذه المرونة ازدادت سعتها وامتد نطاقها بظهور ميادين وقطاعات جديدة أفرزها تدخل الدولة في مجالات كانت الإدارة بعيدة عنها فيما مضى كالنشاط الاقتصادي و الاجتماعي.
ولا تفوتنا الإشارة أنّ التقدم العلمي و التكنولوجي أيضا يساهم في إنشاء نشاطات إدارية مختلفة و التحكم فيها. فالاختراعات العلمية و الاكتشافات الكثيرة و المتنوعة وما لازمها من ظهور لمشروعات متنوعة أدى إلى تدخل الدولة لمباشرة هذه النشاطات والإشراف والرقابة عليها بما يؤدي إلى سيطرتها على مختلف أوجه النشاط وتنظيم الحركية الاقتصادية بهدف إشباع الحاجات العامة للجمهور.
المطلب الثالث: القانون الإداري غير مقنن:
يقصد بالتقنين تجميع رسمي لأهم المبادئ القانونية بخصوص مسألة معيّنة في منظومة تشريعية كأن نقول القانون المدني أو القانون التجاري أو البحري. والتقنين على هذا النحو عملية تشريعية تتمثل في إصدار تشريع يضم المبادئ والقواعد التي تحكم فرعا معينا من الروابط و العلاقات.
ويظهر التقنين نتيجة جهود تقوم بها كل من السلطة التشريعية داخل كل دولة وكذلك جهود السلطة التنفيذية. كما يساهم الفقه أيضا وكذلك القضاء بشكل غير مباشر في ظهور التقنين.
ويأخذ ظهور التقنين زمنا غير قصير. وكلّما تضافرت الجهود من أجل صياغة تقنين معين كلّما ظهر التشريع في صورة يخلو من الثغرات القانونية والأخطاء.
ولاشك أنّ تقنين القاعدة وتبيان ألفاظها وحصر معانيها يؤدي إلى وضوحها فيسهل على القاضي معرفة مقصد المشرع ونيته من خلال ما أقره من قواعد مقننة. ومن ثمّ يسهل عليه الإلمام بها وتطبيقها أحسن تطبيق.
ولقد سبق البيان أنّ التشريع في غير المجال الإداري يتسم بالثبات ولو نسينا بحكم إمكانية التنبؤ بالعلاقة وما قد تثيره من إشكالات. ومن ثمّ فانّ مهمة المشرّع تكون يسيرة وهو يضع قواعد للقانون المدني أو التجاري أو البحري. وخلاف ذلك تماما تكون المهمة في غاية من التعقيد و العسر إن هو حاول حصر وجمع مختلف القواعد الّتي تنظم شتى صور النشاط الإداري بمجالاته المختلفة. من أجل ذلك ذهب الدكتور سليمان محمد الطماوي إلى القول: " إنّه لو قدر لهذا القانون أن يقنن لأصبح أكثر القوانين عرضة للتغيير و التبديل...".
و إذا ما أتينا لحصر الأسباب التي تحول دون تقنين القانون الإداري لأمكن جمعها فيما يلي:
أ- حداثة نشأة هذا القانون: إنّ هذا القانون كما بينّا سابقا حديث النشأة فقواعده لم تظهر إلا في أواخر القرن 18 ولازالت لحد الساعة في طور التكوين. وهذا خلافا لقوانين أخرى كالقانون المدني و الجنائي و المالي يعود ظهورها إلى قرون خلت.
ب- مرونة النشاط الإداري: إنّ مرونة النّشاط الإداري وقابليته للتطور و صعوبة التنبؤ بمختلف جوانب النشاط الإداري وما يحيط به من إشكالات قانونية، كلها عوائق تقف دون إمكانية جمع مختلف أحكام ومبادئ القانون الإداري.
وإذا كان عدم التقنين يشكل أحد الخصائص التي تميّز القانون الإداري، فإنّه من جهة أخرى يعتبره البعض عيبا من عيوب هذا القانون ذلك أنّ عدم التقنين ينجر عنه عدم وضوح القواعد التي تحكم الإدارة العامة وعدم ثباتها مما يجعل في النهاية قواعد هذا القانون سرية لا يعلمها إلا من تخصص في القانون الإداري أو كان على صلة مباشرة بالإدارة مما يفقد أيضا الأفراد شعورهم بالاطمئنان خوفا من مراكزهم القانونية التي قد يصيبها الاهتزاز.
ونظرا لما أسفرت عنه ميزة عدم التقنين من نتائج، وهي أحد مساوئ القانون الإداري في نظر البعض، كثرت الصيحات التي تنادي بضرورة تقنين هذا القانون وجمع قواعده وأحكامه في منظومة واحدة. غير أنّ طبيعة هذا الفرع تأبى من أن يقنّن في مجموعة تشريعية شاملة تحكم مختلف أوجه النشاط الإداري.
وإذا كانت القاعدة العامة هي عدم قابلية القانون الإداري للتقنين و الحصر فانه استثناء من ذلك يجوز تقنين بعض لجوانب التنظيم الإداري أو النشاط الإداري أو وضع قواعد إجرائية تحكم منازعات الإدارة أو موظفيها أو أموالها أو بعض سلطاتها.
المطلب الرابع: القانون الإداري قانون قضائي:
أجمعت مختلف الدراسات أنّ القضاء خاصة الفرنسي ممثلا في مجلس الدولة لعب دورا رائد في إظهار القانون الإداري إلى حيز الوجود. ذلك أنّ مجلس الدولة وفي مرحلة القضاء المفوض، حين عرضت عليه منازعات الإدارة رفض إخضاعها للقانون الخاص وفي غياب كامل لنصوص أخرى تحكم نشاط الإدارة. الأمر الذي فرض عليه تقديم البديل وإيجاد النصوص الّتي تلائم متطلبات الإدارة العامة. وشيئا فشيئا وحال فصله في المنازعات الإدارية المعروضة عليه استطاع المجلس أن يرسي قواعد قانونية من العدم وعرف من خلالها كيف يوازن بين المصلحة العامة أي حقوق الإدارة و سلطتها من جهة، وحقوق الأفراد من جهة أخرى. وهذه القواعد أصطلح عليها فيما بعد بالقانون الإداري.
وتدفعنا ميزة المنشأ القضائي للقانون الإداري التمييز بين القاضي العادي والقاضي الإداري. فالأول قاض تطبيقي أي أنّه يتولى تطبيق النصوص على القضايا المعروضة عليه. فإذا كان النزاع مدنيا لجأ للقانون المدني وان كان تجاريا لجأ للقانون التجاري وهكذا...بينما تتجلّى مهمة القاضي الإداري أنّه كأصل قاضي تأسيس و إبداع وإنشاء، فهو الذي يبدع القاعدة في حال عدم وجودها و تطبيقها على النزاع المعروض عليه، وهي مهمة في غاية من الصعوبة.
من أجل ذلك تمتّع القاضي الإداري بسلطات أوسع من القاضي المدني، سلطات من شأنها أن تساعده على إقرار قاعدة عادلة تحكم النزاع الذي بين يديه خاصة وأنّ أحد أطراف النزاع سلطة عامة (السلطة التنفيذية) وتتمتع هي الأخرى بامتيازات وسلطات. ومن ثمّ كان لزاما تزويد القاضي بسلطة أوسع لإخضاع الإدارة للقانون تكريسا وتطبيقا لمبدأ المشروعية.
الخاتمة:
ومن المعروف أن القانون الإداري فرع من فروع القانون العام الداخلي – تميزاً له عن القانون العام الخارجي الذي ينظم العلاقات بين الدول – والذي يهتم بسلطات الإدارة العامة من ناحية تكوينها ونشاطها وضمان تحقيقها للمصلحة العامة من خلال الإمتيازات الاستثنائية التي تقررها قواعد القانون الإداري .
و للقانون الاداري مجموعة من الخصائص و المميزات التي تميزه عن باقية فروع النظام القانوني في الدولة فيا ترى فيما تتمثل هذه المميزات و الخصائص؟
وللاجابة على هذه الاشكالية قسمنا بحثنا الى المباحث التالية ....
حيث تناولنا في المبحث الاول....
المبحث الأول :ماهية القانون الإداري
المطلب الأول : التعريف بالقانون الإداري
المطلب الثاني: نشأة القانون الإداري وتطوره
المطلب الثالث: علاقة القانون الإداري بالقوانين الأخرى
المبحث الثاني: خصائص القانون الإداري
المطلب الأول : القانون الإداري حديث النشأة
المطلب الثاني : القانون الإداري يتسم بالمرونة و التطور
المطلب الثالث : القانون الإداري غير مقنن
المطلب الرابع : القانون الإداري قانون قضائي
الخاتمة
المبحث الأول :ماهية القانون الإداري
المطلب الأول : التعريف بالقانون الإداري
يمكن تعريف القانون الإداري من هذه الزاوية على أنّه مجموعة من القواعد القانونية الّتي تحكم الإدارة العامة من حيث تنظيمها ونشاطها وأموالها وما يثيره هذا النشاط من منازعات.
والقانون الإداري إذا نظرنا إليه من الجانب الوصفي و العضوي أو الهيكلي نجده في كل دولة على اختلاف توجهاتها وأنماط تسييرها. فكل دولة لها جهازها الإداري الّذي يخضع دون شك لقواعد القانون، سواء من حيث التنظيم والنشاط و الأموال و الرقابة و ضبط المنازعات و غيرها من المسائل.
غير أنّ الاختلاف بين الدول تمحور بالأساس هل يجب أن تخضع الإدارة لنفس القواعد الّتي يخضع لها الأفراد، أم أنّه ينبغي ولاعتبارات معيّنة أن تخضع لقواعد متميزة غير مألوفة لدى الأفراد؟
ففي البلاد الأنجلو سكسونية يخضع نشاط الإدارة لذات القواعد الّتي تحكم نشاط الأفراد و الهيئات الخاصة. وهذا يعني أنّ الإدارة تخضع لقواعد القانون الخاص (المدني و التجاري)، وإذا نتج عن هذه العلاقة منازعة خضعت لذات القواعد و الإجراءات الّتي تسري على الأفراد و يفصل فيها أمام نفس الجهة القضائية التي يمثل أمامها كل الأشخاص، لذا فانّ الميزة الأساسية في هذه الدول أنّها نظرت للقانون ككل نظرة واحدة، فهو لا يختلف بالنّظر لطبيعة الشخص (شخص من أشخاص القانون العام أو شخص من أشخاص القانون الخاص). فالقانون واحد لا يتغير بالنظر لطبيعة الشخص.
هذا ويجدر التنبيه أنّ الفقه الإنجليزي ينبذ فكرة القانون الإداري بالمفهوم الفرنسي على اعتباره أنّه من صور تسلّط الإدارة. كما أنّه يشكل انتهاكا صارخا لمبدأ المساواة أمام القانون، ولمبدأ الفصل بين السلطات هذا الأخير الّذي يفرض خضوع الإدارة كالأفراد تماما لنفس الجهة القضائية، فوحدة القانون في نظرهم هي أكبر ضمانة ضد تعسف الإدارة.
ومما يذكر في هذا المجال ما كتبه الفقيه Dicey بخصوص القانون الإداري الفرنسي في مؤلفه مدخل للقانون الدستوري سنة 1839 قال: " إنّ القانون الإداري خطير على الحريات الفردية وإنّه لمن رواسب النّظام السابق للثورة وإنّ البلاد الإنجليزية لا ترغب في أن يكون لها مثل هذا النوع من القانون". و يرى بعض الكتاب أنّ البلاد الإنجليزية وإن كانت قد رفضت فكرة القانون الإداري من حيث المبدأ، إلا أنّها بادرت في المدة الأخيرة إلى إنشاء محاكم خاصة عهد لها مهمة البتّ في منازعات إدارية محدّدة وهذا ما يدل على مؤشر تبنّيها واستقبالها لفكرة القانون الإداري.1
1 أنظر الدكتور عاطف البنا الوسيط غي القانون الإداري دار الفكر القاهرة 1984 ص.41.الدكتور عبد الغني بسيوني عبد الله القانون الإداري الإسكندرية منشاة المعارف1991ص17.الدكتور محمود حلمي موجز مبادىء القانون الإداري القاهرة دار الفكر 1978ص8الدكتور محمد عبد الحميد أبو زيد المرجع في القانون الإداري القاهرة دار النهضة 1999ص.30. الدكتور ثروة بدوي القانون الإداري دار النهضة 2002 ص.الدكتور ماهر جبر نصر الأصول العامة للقانون جامعة المنصورة 2002ص6. 3
و الحقيقة أنّ هذا المسعى لم يعزز بمساع أخرى ولم يحدث ترسيخه إلى حد الآن. ولقد تبعت دول كثيرة انجلترا في توجهها مثل أستراليا و نيوزيلاندا، ودول من العالم الثالث مثل الهند و بعض الدول الإفريقية.
وعلى خلاف ذلك رأت دول أخرى و على رأسها فرنسا أنّه من الضروري التمييز بين القواعد القانونية الّتي يخضع لها الأفراد وسائر أشخاص القانون الخاص، والقواعد الّتي تخضع لها الإدارة. وتأسيسا على هذا الاختلاف و التباين في المواقف وجب أن يكون للقانون الإداري مفهوم واسع شامل مطلق وآخر ضيق فني خاص. ويقصد بالمفهوم الواسع للقانون الإداري: " مجموع القواعد القانونية التي تحكم الإدارة العامة سواء كان مصدرها القانون الخاص أو القانون العام بل وحتى إن كان مصدرها القانون الخاص وحده ". ويترتّب على إعمال هذا المفهوم القول بأنّ القانون الإداري موجود في كل الدول لأنّه لا يتصور وجود دولة دون إدارة عامة.
المطلب الثاني: المفهوم الضيق.
يقصد بالقانون الإداري بالمفهوم الضيق مجموع القواعد القانونية المتميّزة والمختلفة عن قواعد القانون الخاص الّتي تحكم الإدارة العامة من حيث تنظيمها ونشاطها وما يترتّب على هذا النشاط من منازعات.
ومن هنا نخلص إلى القول أنّ القانون الإداري بالمعنى الضيّق هو القانون الإداري الحقيقي الذي نقصده. فهو ليس مجرّد تسمية لقانون يحكم الإدارة العامة، بل هو قانون متميّز يحتوي على أحكام خاصة مختلفة عن قواعد القانون الخاص. وهذا المفهوم هو الذي سيلازمنا من خلال هذه الدراسة.
ولعلّه من الفائدة أن نشير و نحن بصدد توضيح المفاهيم أنّ الإدارة العامة لا تخضع في كل معاملة ونشاط للقانون الإداري وحده، بل قد يحكمها القانون الخاص في مواضع وحالات معينة، ذلك أنّ الإدارة حينما أحيطت بقواعد متميّزة كان ذلك بالنظر لأنهّا تمثل سلطة عامة، و تدير مرفقا عاما، وتمارس نشاطا متميزا، و تستخدم أموالا عامة، و تهدف إلى تحقيق مصلحة عامة، فان هي فقدت هذا الموقع وابتعدت عن هذا النشاط (النشاط المتميز) خضعت للقانون الخاص ولم تعد هناك حاجة لإخضاعها للقانون العام وإحاطتها بقواعد متميّزة وبقضاء خاص مستقل.
وإذا كان خضوع الدولة للقانون مبدأ مستقر ومسلم به في مختلف الأنظمة على اختلاف أنواعها، فان هذا المبدأ يفرض خضوع الإدارة للقانون، ولا يعد انتهاكا لهذا المبدأ أن تحظى الإدارة بأحكام متميزة غير معروفة في مجال القانون الخاص كما لا يعد مساسا بمبدأ المساواة أمام القضاء أن تحظى الإدارة بقضاء مستقل لأن الدولة أو بعبارة أخرى أدق السلطة العامة تختلف من حيث طبيعتها عن الأفراد. و تبعا للمفهوم الضيّق و الفني للقانون الإداري فان هذا الفرع من القانون يعتني بالجهاز الإداري للدولة فيحكم المسائل التالية:
1- تنظيم السلطة الإدارية: يتكفّل القانون الإداري بتنظيم السلطة الإدارية و تحديد طبيعتها هل هي سلطة مركزية تربط موظفي الأقاليم بتوجيهات وأوامر رؤسائهم الإداريين (تركيز السلطة) أم أنّها سلطة موزعة تباشر كل هيئة مهامها تحت إشراف الجهة الوصية ورقابتها (لامركزية السلطة).
2- نشاط الإدارة: ويتجلى في صورتين:
- الضبط الإداري.
- المرفق العام.
3- أساليب الإدارة: وتظهر في:
- إصدار القرارات الإدارية (نظرية القرار).
- إبرام الصفقات (نظرية العقود).
4- وسائل الإدارة: وتنحصر في الوسيلة البشرية و الوسيلة المادية.
- نظرية الموظف العام.
- نظرية المال العام.
5- منازعات الإدارة: وتشتمل الجهة القضائية المختصة بالفصل في المنازعات ذات الطابع الإداري وكذلك الجوانب الإجرائية الواجبة الإتباع.
المطلب الثالث موقف المشرع الجزائري
سبق القول أنّ القانون الإداري بالمفهوم الفنّي يتضمّن مجموعة قواعد استثنائية غير مألوفة في مجال القانون الخاص تخضع لها الإدارة العامة، وهذه القواعد نشأت عبر مراحل وفرضتها أسباب موضوعية، كما سنوضح ذلك لاحقا.
ومن هنا يطرح السؤال: هل تحققت هذه القواعد الاستثنائية في النظام القانوني الجزائري وما هي صورها؟
لقد تبنى المشرّع الجزائري تدريجيا وبموجب نصوص عديدة فكرة القانون الإداري بالمفهوم الفرنسي كما تأثّر بها القضاء الجزائري
المطلب الثاني:: نشأة القانون الإداري وتطوره
ينبغي في البداية التوضيح بشأن بعض المصطلحات تفاديا لكل خلط قد يحدث لدى الدارسين للقانون الإداري. إذ لابد من إقرار مسألة جوهرية أن القانون الإداري كمجموعة قواعد غير مألوفة في القانون الخاص، والقانون الإداري كتسمية و كفرع من فروع القانون هو حديث النشأة حقا.
بينما نرى محاور جزئية ضمن القانون الإداري قديمة في ظهورها ولا يمكن الاعتراف بصفة الحداثة بشأنها. بل تعود نشأتها إلى أمم و شعوب خلت منذ ظهور الدولة في حد ذاتها كمفهوم دستوري.فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر نظرية التنظيم الإداري و هي أحد أهم محاور القانون الإداري فهي نظرية وجدت في الدولة الرومانية و الدولة الصينية و اليونانية و الإسلامية و غيرها من الدول و على مدى الحضارات و الأجيال المتعاقبة.
لذلك ذهب البعض إلى القول أنّ القانون الإداري كان ملازما للدولة الإسلامية منذ وجودها و ليس من خصائص الدولة الحديثة. لأنّ كل مجتمع متحضر أيا كان نوعه يوجد به قانون إداري بمعناه الواسع الذي يتناول مجموعة موضوعات منها نظرية التنظيم الإداري.
وليست نظرية التنظيم الإداري لوحدها من عرفتها المجتمعات القديمة، بل نظرية المال العام، وسلطات الإدارة خاصة سلطة الضبط.
فكل هذه الخلايا اللصيقة بالقانون الإداري عرفتها الدولة القديمة التي لا يمكن أن يقوم لها ركن إذا لم تجسد فكرة التنظيم الإداري و تعتمد على الأعوان العموميين (الموظف العام). وتمارس جملة من السلطات كمظهر من مظاهر وجودها خاصة سلطة الضبط الإداري للتحكم في الجوانب الأمنية بما يؤدي إلى استقرار الأوضاع و تنظيم العلاقة بين الحاكم و المحكوم. فالمجتمعات القديمة عرفت القانون الإداري جوهرا و تطبيقا و ممارسة و لم تعرفه شكلا أو تسمية.
أمّا القانون الإداري بالمفهوم الفني الضيق فلم يبرز للوجود إلا في فرنسا وعقب مراحل أساسية يمكن حصرها فيما يلي:
أولا: مرحلة عدم مسؤولية الدولة.
أجمعت مختلف الدراسات أنّ القانون الإداري ظهر في فرنسا وهو مرتبط بتاريخها ونظام الحكم فيها. فقبل الثورة الفرنسية 1789 تمتع الملوك بسلطات مطلقة في تسيير شؤون الدولة انطلاقا من فكرة أنهم امتداد لإرادة الله وأنهم ظلّ الله فوق الأرض. فالعدالة مصدرها الملك و لا يتصوّر خضوعه لأي شكل من أشكال الرقابة و حتى القضائية منها.
و لا شك أن تصورا من هذا القبيل لمن شأنه أن يخلع كل قيد يحيط بالإدارة في تصرفاتها. وهو ما يترتب عليه المساس بحقوق الأفراد خاصة بعد انشغال طبقة البرجوازية ورجال الدين في جمع الثروة مما زاد الوضع سوءا وهو ما دفع الفلاسفة ورجال الفكر و الفقهاء إلى دق ناقوس الخطر فطالبوا الشعب أن يلتف حولهم ما أدى في النهاية إلى انفجار الثورة.
وكان الملك في المرحلة السابقة للثورة الفرنسية يقوم بنفسه بتوزيع الاختصاص بين المحاكم المختلفة و يملك حق سحب أيّ منازعة من القضاء ليتكفل هو بالفصل فيها أو يعهد بها إلى غيره، كما تمتع الملك بسلطة واسعة إزاء الأحكام فحقّ له أمر وقفها أو ممارسة حق العفو.
ثانيا: مرحلة الإدارة القاضية - Administration juge.
لما قامت الثورة الفرنسية رأت السلطة المنبثقة عنها أن المحاكم العادية قد تعرقل الإصلاحات التي تعتزم الإدارة القيام بها وتحد من فعاليتها وهو ما تأكد عملا في زمن البرلمانات. لذا كان الانشغال الكبير الذي راود السلطة الفرنسية آنذاك هو محاولة إيجاد صيغة وطريقة لإبعاد منازعات الإدارة عن ولاية واختصاص المحاكم العادية.
فصدر لهذا الغرض القانون 16-24 أوت 1790 فجاء في الفصل 13 منه ما يليّ " إن الوظائف القضائية تبقى دائما مستقلة عن الوظائف الإدارية و على القضاة وإلا كانوا مرتكبين لجريمة الخيانة العظمى ألا يتعرّضوا بأيّ وسيلة من الوسائل لأعمال الهيئات الإدارية".
"Les fonctions judiciaires sont distinctes et demeureront toujours sépares des fonctions administratives. les juges ne pourront à,peine de forfaiture troubler de quelque manière que ce soit les opérations des corps administratifs".
وتأكّد هذا المبدأ مرة أخرى بالقول: " إن القضاة لا يمكنهم التعدي على الوظائف الإدارية أو محاكمة رجال الإدارة عن أعمال تتصل بوظائفهم و يحظر على المحاكم حظرا مطلقا النظر في أعمال الإدارة أيما كانت هذه الأعمال ".
"Les juges, ne peuvent entreprendre sur les fonctions administratives ni citer devant eux les administrateurs pour raison de leurs fonctions.
Défenses intégratives sont faites aux tribunaux de connaître des actes d’administration de quelques espèces qu’ils soient ".
وهكذا اعتبر المدافعون عن قانون 1790 أنّ مقاضاة الإدارة أو مساءلة أعوانها يؤدي دون ريب إلى عرقلة أعمالها التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام. فعندما تنوي الإدارة نزع ملكية وتقف أمام القضاء من أجل هذا العمل فإنّ إجراءات النزع ستتوقف وأيلولة المال من الملكية الخاصة إلى الملكية العامة ستجمّد. وهو ما يؤدي في النّهاية إلى تعطيل المشاريع ذات الطابع العام. وما قيل عن النزع يقال عن غيره من سلطات الإدارة كسلطة الضبط أو السلطات في مجال التعاقد.
و تطبيقا لهذا القانون فانّ المنازعات الإدارية التي تكون الإدارة المركزية طرفا فيها فإنها تحال مباشرة على الملك. أمّا المنازعات التي تكون الإدارة المحلية طرفا فيها فقد اختصّ بها حكام الأقاليم. فقد قالSirey عبارة تؤكد هذا المعنى سنة 1818:" العدالة الإدارية متمّمة و مكمّلة للعمل الإداري".
ومن هنا اجتمع في الإدارة صفة الخصم و الحكم لذلك سميت هذه المرحلة بمرحلة الإدارة القاضية.
وجدير بالذكر أنّ أحكام هذا القانون منعت القضاء من تأويل النصوص الغامضة وألزمته باللجوء للسلطة التشريعية في نطاق ما يسمى بالدعوى التشريعية الاستعجالية.
والحقيقة أن الأسباب المستند إليها لفرض وإعمال قانون 1790 يمكن دحضها بالنظر لما يأتي:
1- إن عدم خضوع الإدارة أمام القضاء يعني أن المحاكم قد تكون في وضعية إنكار العدالة فهي حين يقصدها المتقاضون نتيجة عمل قامت به الإدارة أو تسبب فيه أحد أعوانها تضطر وتطبيقا لقانون 1790 إلى التصريح برفض الدعوى لعدم الاختصاص أيا كان الضرر الناتج عن هذا العمل وأيا كانت خروقاته وتجاوزاته.
2- لقد تناسى المدافعون عن القانون 1790 أنّ مبدأ الفصل بين السلطات يفرض تمكين السلطة القضائية من مراقبة أعمال السلطة التنفيذية وهذا ما أكده مونتسيكو نفسه في كتابه روح القوانين بقوله: " كل شخص بين يديه سلطة مدعو إلى أن يستبد بها فلا بد إذن حتى تنظم الأشياء بكيفية تجعل كل سلطة تمنع تجاوزات السلطة الأخرى ".
ولا مفر من الاعتراف لجهاز القضاء بمراقبة أعمال الإدارة وهذا تطبيقا لمبدأ المشروعية، وصونا للحقوق الأساسية و الحريات العامة، ومنعا للإدارة من كل عمل يطبع بالتعسف.
و تبقى أنّ هذه المرحلة من مراحل تطور القانون الإداري تتميز عن غيرها وسابقتها. ففي المرحلة الأولى لم تكن الدولة ومن ثمّ الإدارة تسأل عن أعمال موظفيها. أما في ظل المرحلة الجديدة (الإدارة القاضية) صار بالإمكان مساءلة الدولة عن أعمال موظفيها لكن أمام الإدارة نفسها.
ثالثا: مرحلة القضاء المقيّد أو المحجوز -Justice retenu.
بصدور دستور السنة الثامنة في عهد نابوليون بونابرت عرفت فرنسا تحولا جذريا في مجال منازعات الإدارة إذ نصت المادة 52 منه على إحداث مجلس الدولة كما تمّ إنشاء مجالس المحافظات. ولقد أرجع كثير من الكتاب سبب إنشاء المجلس إلى سيل الطلبات المرفوعة ضد الإدارة الفرنسية آنذاك.
وما يمكن ملاحظته أن قرارات المجلس في هذه المرحلة لم تكن تكتسي الطابع القضائي بل لا تخرج عن كونها آراء أو مشاريع قرارات بخصوص منازعات معينة وجب أن ترفع أمام القنصل العام (نابليون) باعتباره رئيس الدولة الذي كان له وحده حق المصادقة عليها أو رفضها.
فولاية المجلس لم تكن كاملة وشاملة وأحكامه لم تكن نهائية. أمّا مجالس الأقاليم فقد كانت قراراتها قابلة للطعن أمام مجلس الدولة الذي يبدي أيضا بشأنها الرأي ليرفع فيما بعد للقنصل العام و الذي إن شاء أضفى الطابع التنفيذي على رأي المجلس وإن شاء رفضه.
وإذا كانت هذه المرحلة قد عرفت نواة القانون الإداري ممثلة في مجلس الدولة، إلا أنّه لا يمكن الحديث عن وجود هذا القانون في هذه المرحلة بالذات لسببين:
1- إنّ مجلس الدولة لم يكن صاحب القرار النهائي عند فصله في النزاع بل أن قضاءه كان مقيدا أو معلقا على مصادقة رئيس الدولة، وبالتالي علّق قضاؤه على مشيئة ورغبة السلطة التنفيذية.
2- إنّ مجلس الدولة لم يعتمد أحكاما خاصة حال فصله في المنازعات إنّما طبق القانون الخاص.
وتشد تسمية مجلس الدولة الانتباه من زاويتين:
1- إنّ تسمية مجلس الدولة اعتمدت على غرار التسمية التي كانت سائدة قبل الثورة و هي مجلس الملك (Conseil du Roi) فكأنما المجلس أنشئ لمساعدة السلطة التنفيذية.
2- إنّ تسمية مجلس الدولة، أريد له في بداية الأمر أن يكون بمثابة هيئة مشورة تلجأ إليها السلطة التنفيذية.
وبخصوص حالات رفض رئيس الدولة الفرنسية لمشاريع الأحكام الصادرة عن مجلس الدولة أشار الدكتور ثروت بدوي أنها لم تتعد ثلاث حالات طوال القرن التاسع عشر، وأنّ حالات التعديل كانت في صالح المواطن المدعي لا الإدارة. وإن كان الأستاذ المذكور أشار لصعوبة تحديد و حصر حالات التعديل بحكم الحريق الذي أتى على أرشيف مجلس الدولة الفرنسي 1871.
رابعا: مرحلة القضاء المفوض (تغيير الطبيعة القانونية لمجلس الدولة) Justice déléguée.
لم تدم المرحلة السابقة طويلا إذ صدر في 24 ماي 1872 قانونا اعترف لمجلس الدولة بصلاحية الفصل في المنازعات الإدارية دون حاجة إلى مصادقة السلطة الإدارية على قراراته. ولم تعد الأحكام تصدر باسم رئيس الدولة بل باسم الشعب الفرنسي ومنذ ذلك التاريخ أصبح مجلس الدولة جهة قضائية عليا بأتم معنى الكلمة حيث تم الفصل بين القضاء الإداري و القضاء العادي. ودرءا لأي تنازع في مجال الاختصاص قد يثور تم إنشاء محكمة تنازع تتولى الفصل في المنازعات بشأن الاختصاص الذي قد يحدث بين القضاء العادي و القضاء الإداري عند ابتداعه فكرة تمييز قواعد القانون الإداري عن مجموع قواعد القانون الخاص.
وقد نجح المجلس في تبرير هذه القواعد وتأسيس استقلالية القانون الإداري باعتباره القانون الذي يحكم المنازعات الإدارية. ولقد أحدث نجاحه هذا تخوفا لدى البعض من أن المجلس اغتصب الوظيفة التشريعية في فرنسا.وقد نجح المجلس في تبرير هذه القواعد وتأسيس استقلالية القانون الإداري باعتباره القانون الذي يحكم المنازعات الإدارية. عند إقراره للقواعد تحت عنوان القضاء الإنشائي أو الدور الإبداعي لمجلس الدولة وذلك بمناسبة فصله في القضايا المعروضة عليه.
ومن خلال هذا العرض التاريخي السريع يتبيّن لنا أنّ رغبة السلطة الفرنسية كانت واضحة في إبعاد القضاء العادي من أن يتولى النظر في منازعات الإدارة حتى لا يعرقل نشاطها وأعمالها. وإنّ إنشاء مجلس للدولة جاء ليترجم بصدق ضرورة التفكير في قواعد استثنائية غير مألوفة في مجال روابط القانون الخاص تحكم نشاطات الإدارة.
ولقد أثبتت التجربة أنّ مجلس الدولة ومن خلال المنازعات المعروضة عليه عرف كيف يوازن بين مصلحة الإدارة وحقوق الأفراد الأمر الذي منحه ثقة المتقاضين و الشعب الفرنسي عامة.
واقتنع مجلس الدولة تمام الاقتناع أنّ تطبيق قواعد القانون المدني على منازعات الإدارة سيقف دون شك حائلا دون قيامه بمهمته على أفضل وجه ويعرقل حسن سير المرافق العامة. ولو اعتمد مجلس الدولة على قواعد القانون الخاص وحده حال فصله في المنازعات المعروضة عليه لما وصل القانون الإداري إلى ما وصل إليه ولما عرف ذاتيته واستقلاليته.
و أسّس مجلس الدولة قراراته على روح القانون العام أحيانا و على مقتضيات العدالة أحيانا أخرى و على حسن سير المرفق العام في حالات ثالثة.
ودأب مجلس الدولة على تقسيم أعمال السلطة التنفيذية إلى قسمين: أعمال السيادة وأعمال الإدارة العامة. فترك للإدارة حرية واسعة في دائرة الأعمال الأولى، وأقرّ عدم صلاحيته في مراقبة هذا النوع من الأعمال إن إلغاءا أو تعديلا،
وقصر رقابته فقط على ما يسمى بأعمال الإدارة العادية.
ويعود سر استبعاد مجلس الدولة الفصل في القضايا التي تتعلق بما اصطلح عليه بأعمال السيادة من وجهة نظرنا أنّ لهذا النوع من الأعمال وثيق الصلة بالسياسة العامة للدولة، بشكل عام مما سيكون لها (أي الأعمال) بالغ الأثر على مجريات الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية. و أنّ التعرض لها بإلغاء من جانب المجلس الدولة من شأنه أن يفسد على السلطة التنفيذية ما رسمته من خطط لذلك استبعدها المجلس من مجال رقابته.
وأمام ما حققه المجلس من نجاح كبير لم تجد الدول الأوربية حرجا في التأثر بالنّمط القضائي الفرنسي و تخلت عن نظام القضاء الموحد كبلجيكا و ايطاليا وامتد أيضا لتركيا و اليونان. و بدورها سارعت بعض البلدان العربية كمصر وتونس و المغرب و الجزائر لتبني فلسفة القانون الإداري واستيعاب فكرة القواعد الاستثنائية وفصل جهة القضاء الإداري عن القضاء العادي ولو مرحليا وذات الأمر حدث في كل من السنغال وكوت ديفوار و الغابون.
وبهذا النجاح تعمّقت مكانة مجلس الدولة سواء في ضمير الشعب الفرنسي كحارس للحريات العامة و لحقوق الإدارة حافظا لمكانتها، مما دفعه إلى إقرار كثير من الامتيازات و السلطات و التي أصبحت تشكل فيما بعد جزءا لا يتجزأ من القانون الإداري.
ّهذا ويجدر التنبيه أن مجلس الدولة يتكون من هيئات إدارية وأخرى قضائية. وقد عهد للقسم الإداري بالمجلس وظيفة الاستشارة و ينقسم بدوره إلى قسم الشؤون الاجتماعية، وتمّ إنشاء لجنة جديدة أطلق عليها اسم لجنة التقرير وأسند إليها دور هام تمثل في إبداء الرأي حول مشروعات القوانين أو اللوائح المقترحة الخاصة بالإصلاح الإدارة. كما أسند إليها مهمة أخرى تتمثل في مراقبة تنفيذ الأحكام القضائية أما عن طريق العرائض التي يتقدم بها الأفراد للقاضي الإداري عند امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام.
أمّا الوظيفة القضائية للمجلس فتتمثل في صلاحيته كمحكمة أول درجة بالنظر في المنازعات المحددة على سبيل الحصر منها:
- الطعون الخاصة بتجاوز السلطة أو دعاوى الإلغاء الموجهة ضد المراسيم اللائحية أو الفردية.
- المنازعات المتعلقة بالمراكز الفردية للموظفين المعنيين بمرسوم.
- الطعون الموجهة ضد أعمال إدارية يتجاوز نطاق تطبيقها دائرة اختصاص محكمة إدارية واحدة.
- كما ينظر المجلس في المنازعة الإدارية باعتباره محكمة استئنافية بخصوص الطعون المرفوعة ضد أحكام المحاكم الإدارية الإقليمية.
خامسا: محكمة التنازع وقرار بلانكو الشهير.
إنّ الحذر الذي راود كثيرا من رجال الفقه و الإدارة في فرنسا لم يكن من القضاء العادي فقط، بل التخوف كان مركزا أكثر على القواعد القانون الخاص. لذا فان تخصيص قضاء مستقل للإدارة كان الهدف منه إحداث نواة لقانون متميز يحكم نشاطها.وكانت مهمته هذه في غاية من الصعوبة خاصة من ناحية تعليل عدم صلاحية قواعد القانون الخاص لأن تحكم بعض صور نشاط الإدارة. ولعلّ النقلة النوعية و القرار التاريخي تجسد في قرار بلانكو الشهير. ونظرا لأهميته نسوق وقائعه ومنطوقه:
تعرضت بنت صغيرة تدعى ايجنز بلانكو لحادث تسببت فيه عربة تابعة لوكالة التبغ الّتي كانت تنقل إنتاج هذه الوكالة من المصنع إلى المستودع. قام ولي البنت برفع دعوى لتعويض الضرر المادي الذي حصل لأبنته أمام المحكمة العدلية أو القضاء العادي على أساس أحكام القانون المدني الفرنسي. إلاّ أنّ وكالة التبغ اعتبرت أنّ النزاع يهم الإدارة وأنّ مجلس الدولة هو صاحب الاختصاص لذلك طالبت بإيقاف النظر في الدعوى حتى تبت محكمة تنازع الاختصاص في هذا الإشكال.
وحال عرض الأمر عليها أجابت محكمة تنازع الاختصاص بتاريخ 08 فبراير 1973 بما يلي:
"حيث أنّ المسؤولية الّتي يمكن أن تتحمّلها الدولة بسبب الأضرار التي يلحقها أعوان المرفق العام بالأفراد لا يمكن أن تخضع لمبادئ القانون المدني الّتي تضبط علاقة الأفراد فيما بينهم.
- حيث أن هذه المسؤولية ليست عامة أو مطلقة بل لها قواعدها التي تتغير حسب مقتضيات المرفق العام وضرورة التوفيق بين مصلحة الدولة وحقوق الأفراد.
- وحيث أصبحت بالتالي السلطة الإدارية وحدها المختصة بالنظر في هذا النزاع وهو ما يجعل قرار رئيس المقاطعة في رفع القضية أمام المحكمة قرار صائبا يستوجب إقراره ".
و هكذا يتضح لنا بما لا يدع مجالا للشك أنّ هذا القرار أحدث هزة لا مثيل لها بخصوص إثبات ذاتية القانون الإداري على اعتبار أنّه مجموعة قواعد تحكم الإدارة العامة وتتضمن أحكاما استثنائية غير مألوفة في مجال روابط القانون الخاص. وإذا نحن أمعنا النظر في حيثيات هذا القرار ومنطوقه نستنج ما يأتي:
1- أنّ هذا القرار أعلن عن وجود قواعد خاصة تحكم نشاط الإدارة بقوله: "حيث أنّ المسؤولية التي يمكن أن تتحمّلها الدولة لا يمكن أن تخضع لقواعد القانون المدني..."، ومنها (أي الحيثية) يفهم أنّ قواعد القانون المدني لم تعد تواكب نشاط الإدارة ولا تليق بطبيعة عملها. لذا وجب استبعادها لعدم صلاحيتها وقصر تطبيقها فقط على الأفراد بحسب ما أشير إليه صراحة. وحين يستبعد القانون المدني يقتضي المنطق القانوني التفكير في قواعد بديلة أكثر ملائمة لطبيعة النشاط الإداري أصطلح على تسميتها فيما بعد بقواعد القانون الإداري.
2- أكد القرار على خضوع الدولة للمسؤولية فعدم خضوعها لقواعد القانون المدني لا يعفيها من تحمل المسؤولية. وفي هذا المسلك مخالفة للقناعة السائدة في ذلك الوقت وهي عدم مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها.
3- أفصح هذا القرار عن المعيار المعتمد لمعرفة طبيعة المنازعة وهل يختص بالفصل فيها القضاء الإداري أم القضاء العادي وهذا المعيار أصطلح على تسميته بمعيار المرفق العام. فهو الّذي فرض مثل هذه القواعد الغير مألوفة في مجال روابط القانون الخاص.
4- أقرّت محكمة التنازع الفرنسية صراحة أنّ القواعد التي يخضع لها المرفق العام غير مستقرة وثابتة بل إنها تتغير كلما فرضت مصلحة المرفق ذلك فهي إذن في حركة مستمرة. و إزالة لكل خوف لدى الأفراد المتعاملين مع الإدارة أعلنت محكمة التنازع إن هذه القواعد الغير مألوفة ينبغي أن يراعي فيها التوفيق بين مصلحة الإدارة وحقوق الأفراد.
5- إنّ هذا القرار التاريخي اعترف للقاضي الإداري بتطبيق قواعد القانون الإداري. ولقد كان لهذا القرار بصمة واضحة ليس من ناحية إقرار مسؤولية الدولة فحسب بل من ناحية تعريف القانون الإداري و تحديد أسسه ورسم نطاقه وولايته كما سنرى ذلك لاحقا.
ومن ذلك كله نستنتج أنّ الازدواج القضائي أدى إلى الازدواج القانوني، أي وجود نوعين من القواعد القانونية. أحدها قواعد القانون الخاص التي تحكم كأصل عام منازعات أشخاص القانون الخاص. وثانيهما قواعد القانون العام التي تحكم المنازعات الإدارية و تستمد كأساس مصدرها من القضاء نفسه. ذلك أنّ قواعد القانون الإداري لم تنشأ بتدخل من المشرّع، ولم يصدرها في شكل منظومة مقننة كالقانون المدني أو التجاري أو الجنائي، وإنما نشأت هذه القواعد تباعا وعلى مدى مراحل طويلة على يد القضاء الفرنسي خاصة.
المطلب الثالث: علاقة القانون الإداري بالقوانين الأخرى
الآن وبعد أن اتّضح لنا المفهوم الفني للقانون الإداري وموقف المشرّع الجزائري منه، وجب تحديد علاقة هذا الفرع من القانون بالعلوم الأخرى ذات الصلة به، وكذا فروع القانون الأخرى وهو سنوضحه في مطلبين اثنين:
المطلب الأول: علاقة القانون الإداري بعلم الإدارة العامة.
تعريف علم الإدارة العامة: عرّف الفقه علم الإدارة على أنّه علم إنساني يعني بوصف و تفسير و بناء و نشاط جهاز الدولة القائم على توفير سياستها العامة بقصد اكتشاف القواعد المؤدية إلى أفضل تشغيل لهذا الجهاز.
ولقد دأبت معظم الدول على إدراج مادة الإدارة العامة ضمن مقرر الدراسة لإعداد شهادة ليسانس في العلوم القانونية و الإدارية. وهنا يثور التساؤل بشأن التمييز بين القانون الإداري و علم الإدارة العامة، نوضح هذه المسألة فيما يلي:
- معنى الإدارة العامة: يتحدّد مفهوم الإدارة العامة تبعا لأحد المعيارين المعيار العضوي أو الهيكلي و المعيار الموضوعي أو الوظيفي.
*المعنى العضوي: و يتجسد في السلطات الإدارية و هياكلها المختلفة سواء المركزية أو اللامركزية وسواء أكانت إقليمية كالولاية أو المحافظة أو مرفقية كالمؤسسة.
*المعنى الوظيفي: ويقصد به النّشاط الذي تباشره هذه الهيئات أو السلطات الإدارية و ما تتمتع به من امتيازات بهدف تحقيق المصلحة العامة. وبظهور هذين المفهومين للإدارة العامة طرح السؤال على المستوى الفقهي هل القانون الإداري قانون الإدارة العامة بالمفهوم العضوي أو الوظيفي؟
لقد احتدم النقاش في الفقه بخصوص أسلم المعيارين في تحديد مفهوم القانون الإداري فقيل أن القانون الإداري بصفة عامة هو ذلك القانون الذي ينطبق على الإدارة العامة بمعناها العضوي و الوظيفي، ويؤخذ على هذا التعريف الشمولية والإطلاق وهو ما شأنه أن يبعدنا عن المفهوم الفني للقانون الإداري.
هذا فضلا على أنّ الإدارة العامة قد تخضع في نشاطها كما قلنا لقواعد القانون الخاص، بل أنها تخضع أيضا لفروع أخرى من القانون كالقانون المالي مثلا.
ويتضمّن علم الإدارة العامة مجموعة المبادئ و الأساليب العلمية الّتي تطبق على الإدارة باعتبارها منظمة ونشاط أي أنّه ينصرف لكل من المدلولين العضوي و الوظيفي.
ومن خلال ما تقدم يتبيّن لنا أنّ العلاقة و ثيقة بين العلمين إلا أنّ الفرق بينهما يكمن في أنّ علم الإدارة يهتم بالإدارة العامة من الزاوية الفنية أي يهتم فقط بالجانب القانوني. يقول Bernard Gournay: " إنّ علم الإدارة يعد أحد الفروع العلوم الاجتماعية الذي يعتني بوصف وشرح وتكوين جهاز الدولة ونشاط وآراء وسلوك الأفراد والجماعات و الأعضاء العاملين فيه. أمّا القانون الإداري فهو نظام له طابع قانوني يتعلّق بدراسة القواعد التي تحكم أعمال الأشخاص الإدارية سواء تعلقت هذه القواعد بنصوص دستورية أو قانونية أو لائحية أو أحكام قضائية.
ولتوضيح ذلك نسوق المثال التالي:
1- في مجال النظرية العامة للموظف: يهتم القانون الإداري مثلا بالموظف العام من زوايا معينة: من هو الموظف العام، ما هي شروط الوظيفة العامة، ما هي حقوقه وواجباته الوظيفية، كيف تنظم ترقيته وتأديبه، ما هي الطرق القانونية لإنهاء العلاقة الوظيفية و غيرها من الموضوعات.
بينما علم الإدارة وإن كان بدوره يهتم بالموظف العام إلا أنّه يركز على جوانب أخرى كدراسة شروط التأهيل للوظيفة دراسة فنية وأكاديمية، وطرق التدريب وكيفياته.
وإذا كان القانون الإداري يعترف للرئيس الإداري بسلطة تنقيط مرؤوسيه، فانّ علم الإدارة يهتم بالكشف عن أفضل السبل لتقدير كفاءة العاملين. وإذا كان القانون الإداري يهتم بالجزاءات أو العقوبات التأديبية و يحدّد أصنافها ودرجاتها، فإنّ علم الإدارة يهتم بمدى نجاعة هذه الجزاءات في دفع عملية الأداء الوظيفي.
ونظرا لهذه العلاقة الوطيدة بين القانون الإداري و علم الإدارة العامة ذهب الدكتور ثروت بدوي إلى القول: " لذلك نرى أنّ دراسة القانون الإداري تشتمل، إلى جانب ما تشمله من جوانب قانونية متصلة بتحديد اختصاصات السلطات الإدارية المختلفة و القواعد القانونية التي تنظم ممارستها لهذه الاختصاصات و التي تحكم علاقتها بالأفراد...الخ نرى أنها تشتمل حتما دراسة بعض أصول علم الإدارة العامة سواء من حيث تطبيق فكرة المركزية الإدارية أو اللامركزية أو من حيث تنظيم الوظيفة العامة.
2- في مجال القرارات الإدارية: يعتبر القرار الإداري فضاءا مشتركا بين كل من القانون الإداري أو علم الإدارة العامة. فنظرية القرار الإداري تعتبر من أهم نظريات القانون الإداري كيف وأنّ أهمية القرار الإداري امتدت إلى مجال المنازعات، فلو أخذنا على سبيل المثال قضاء الإلغاء نجده ينصب بالأساس على فكرة القرار الإداري اعتبارا من أن دعوى الإلغاء ستنصب عليه.
كما أنّ للقرار الإداري أهمية على مستوى علم الإدارة العامة إذ لا يتصور أن تباشر الإدارة كهيكل سواء مركزي أو محلي أو مؤسسة لنشاطها دون اعتمادها على القرار الإداري كوسيلة تسيير وأداة تنظيم وإدارة. و رغم هذه الصلة والعلاقة، إلا أنّ الفرق يظل واضحا بين القانون الإداري و علم الإدارة فيما تعلق بالقرار الإداري. فالقانون الإداري يهتم بنظرية القرار الإداري من حيث مفهوم القرار الإداري و أركانه وآثاره، إبطاله و سحبه ومختلف طرق انتهاءه، بينما علم الإدارة يهتم بمراحل اتخاذ القرار الإداري ومستوياته و المشاركة في القرار.
وعلى حد قول الدكتور محمد عبد الحميد أبو زيد " فإنّ الإداري الناجح هو من يجمع بين دراسة علم الإدارة العامة و القانون الإداري حيث تمكنه دراسة هذا القانون من سرعة إنجاز الأعمال وإفراغها في الصورة السليمة من حيث الشكل أو الجوهر. كما يمكن للباحثين في مجال القانون الإداري الاستفادة مما تكشف عنه دراسات مادة الإدارة العامة من مبادئ تحكم تنظيم الإدارة العامة ونشاطها ".
3- في مجال التنظيم: يهتم علم الإدارة المركزية من حيث تركيبها كما يهتم أيضا بالإدارة المحلية و المفاضلة بين نظام الانتخاب و التعيين ومزايا ومساوئ كل نظام. ويتكفل القانون الإداري بدراسة الهياكل الإدارية من الناحية القانونية. فيبيّن مثلا صلاحيات رئيس الجمهورية في المجال الإداري وصلاحيات الوزير والعلاقة بين الأجهزة المحلية المنتخبة وسلطة الوصاية و غيرها من المسائل القانونية.
ومن خلال ما تقدم يتضح لنا أنّ القانون الإداري يبحث في البناء القانوني للأنظمة الإدارية فهو يدرس تفسير النصوص وشروط تطبيق القواعد وإجراءاتها والحقوق و الالتزامات المترتبة عليها وصحة العقود و القرارات ونظرية الأشخاص.كما يتناول الاعتداءات التي تلحقها الإدارة بحريات الأفراد ومسؤولياتها المختلفة.
أمّا علم الإدارة باعتباره علما مستقلا عن القانون الإداري يهتم بالإدارة العامة من حيث تنظيمها الفنية و يتعرّض للأساليب الإدارية من جوانب عملية سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
وإجمالا نقول أنّ الدراسة القانونية و الفنية تعتبران لازمتان وضروريتان لتقدّم الإدارة العامة تقدما سليما متكاملا. لأنّ القانون الإداري لا يبحث في كل المسائل وكذلك علم الإدارة.
المطلب الثاني: علاقة القانون الإداري بفروع القانون الأخرى.
أولا: علاقة القانون الإداري بالقانون الدستوري.
يعتبر القانون الدستوري و القانون الإداري فرعان لأصل واحد هو القانون العام. بل إنّ العلاقة بينهما هي أعمق من ذلك بكثير لأنهما يعالجان مسألة واحدة هي السلطة التنفيذية مع تناول كل فرع لها من جهة معينة. فالقانون الدستوري يركز و يهتم بالسلطة التنفيذية كجهة حكومية و كسلطة دستورية والقانون الإداري يهتم بها كإدارة أي من الناحية الإدارية.
ولا شك أنّ تنظيم الدستور لصلاحيات السلطة التنفيذية وإبراز هيئاتها القيادية يفرض تدخل القانون الإداري ليبين نشاط الهيئة التنفيذية لذلك قال بيرتلمي Berthelmey: "إن الدستور يبين كيف شيدت الآلة الحكومية أمّا القانون الإداري يبين كيف تسير هذه الآلة وكيف تقوم كل قطعة منها بوظيفتها". وقال ديكروك Ducrocq: " إنّ القانون الدستوري يقرّر المبادئ الأساسية للقانون العام في الدولة أي المبادئ الّتي تضمن للأفراد حقوقهم السياسية و المالية و الدينية و المدنية. أمّا القانون الإداري هو الّذي يضع هذه المبادئ موضع التنفيذ و يحدّد شروط تطبيقها. و بعبارة أخرى فإنّ القانون الدستوري يحتوي على عناوين وموضوعات القانون الإداري".
وقد ترتّب عن هذه العلاقة تعذر الفصل بين القانونين لاشتراكهما وتداخلهما في الكثير من الموضوعات لدرجة أنّ بعض الفقهاء ذهب إلى هدم كل محاولة للتفرقة بين القانونين لأنها تفرقة لا تشيد على صرح الحقيقة ولا تحتوي مدلولا قانونيا واضحا، ويظهر ذلك خاصة في انجلترا.
ولقد تضمّن الدستور الجزائري لسنة 1996 الكثير من القواعد ذات العلاقة المباشرة بالقانون الإداري من ذلك نص المادة 15 الّتي أعلنت عن الجماعات الإقليمية للدولة و هي البلدية و الولاية. و المادة 16 التي اعتبرت المجلس المنتخب قاعدة اللامركزية ومكان مشاركة المواطنين في تسيير الشؤون العمومية. وصنفت المادة 17 الملكية العامة بأنها ملك المجموعة الوطنية وأعلنت عن مشتملاتها المتمثّلة في باطن الأرض و المناجم و المقالع و المواد الطبيعية للطاقة و الثروات الطبيعية و الحية في مختلف مناطق الأملاك الوطنية البحرية و المياه والغابات كما تشتمل النقل بالسكك الحديدية و النقل البحري و الجوي و البريد و المواصلات السلكية و اللاسلكية.
وقسمت المادة 18 الأملاك إلى عمومية وخاصة لكل من الدولة و الولاية والبلدية وأحالت بشأن تسييرها للقانون.
أمّا المادة 20 فقد ثبتت سلطة من سلطات الإدارة هي سلطة النزع معترفة للمنزوع ملكيته بتعويض قبلي عادل ومنصف. وأحالت هي الأخرى بخصوص ممارسة هذه السلطة للقانون.
وألحّت المادة 21 على الطابع العمومي للخدمة ومنعت أن يتخذ منها مصدرا للثراء وحماية للمتعامل مع الإدارة أو الجمهور وعدت المادة 22 بمعاقبة كل متعسّف في استعمال السلطة على أن يتكفل القانون بتنظيم هذه المساءلة.
وأعلنت المادة 23 عن مبدأ جديد لا نجده في الدساتير الجزائرية الأخرى ألا وهو عدم تحيّز الإدارة على أن ينظم هذا المبدأ أيضا بموجب القانون.
وتبرز العلاقة بين القانون الدستوري و الإداري في مواد كثيرة أخرى من دستور 1996. فهذه المادة 29 أرست مبدأ مهما ألا وهو مبدأ المساواة أمام القانون الّذي يتفرع عنه مبدأ المساواة أمام المرافق العامة وهو الآخر أحد أهم مبادئ القانون الإداري، الذي يفرض على الإدارة العامة ألا تميّز بين فئة المنتفعين من خدماتها سواء بناءا على المولد أو العرق أو الجنس أو الرأي أو أيّ شرط أو سبب آخر.
أمّا المادة 30 فخصصت للجنسية الجزائرية وأحالت بشأن أنواعها واكتسابها و فقدانها للقانون. ومن البديهي أنّ الجنسية تعتبر أحد أهم شروط تقلّد الوظائف العامة أيا ما كانت طبيعة الوظيفة.
وإذا كانت المادة 41 من الدستور قد أعلنت عن حرية التعبير وإنشاء الجمعيات و ممارسة حرية الاجتماع. فإنّ التمتّع بممارسة هذه الحريات يتوقف على ترخيص من الإدارة المختصة كصورة من صور أعمال الضبط الإداري.
وكذلك الحال بالنسبة للمادة 42 الّتي أعلنت عن حق إنشاء الأحزاب السياسية فانّ الإنشاء متوقف عن عمل إداري يتمثّل في قرار صادر عن وزير الدولة وزير الداخلية.
واعترفت المادة 43 بحق إنشاء الجمعيات أو ما يسمى بالنشاط الجمعوي. ويفرض هذا الإنشاء تدخّل جهة الإدارة كجهة تنظيمية و ضبطية.
واعترفت المادة 44 لكل مواطن بأن يختار محل إقامته وبأنّ دخوله و خروجه من التراب الوطني مضمون و في كلا الوضعيتين إقامة أو خروجا يفرض القانون تدخل جهة الإدارة المعنية (بلدية، دائرة) بغرض الحصول على الوثائق المثبتة للوضعية و لممارسة حرية ما.
وضمن دائرة الحقوق السياسية أعلنت المادة 50 عن حق الترشيح والانتخاب. و من المؤكد أنّ ممارسة هذين الحقين يتطلب تدخل جهات إدارية كثيرة مركزية و محلية كرئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزارة الداخلية و الولايات والبلديات.
و صرحت المادة 51 بمبدأ المساواة في تقلد الوظائف العامة و حظرت التمييز أيا كان شكله مع إجازة وضع شروط قانونية لتقلد كل وظيفة حسب طبيعتها وحسب التصنيف و المهام. وكرست المادة 56 الحق النقابي وهو أيضا يمارس داخل الإدارات العمومية (مركزية، محلية، مرفقية).
كما كرست المادة 57 حق الإضراب وهو الآخر يمارس في مجال الإدارات العمومية كما يمارس في القطاع الخاص.
وجاءت المادة 77 محددة لسلطات و صلاحيات رئيس الجمهورية ومن بين الصلاحيات ذات الصلة بالقانون الإداري تعيينه لرئيس الحكومة وإنهاء مهامه. ورئاسته لمجلس الوزراء. فرئيس الجمهورية إلى جانب أنه شخصية سياسية فهو أيضا شخصية إدارية. و بناءا على هذه الصفة الأخيرة اعترفت له المادة 78 من الدستور بالتعيين في وظائف الدولة السامية، ويتعلّق الأمر بتعيين الوزراء و الأمناء العامين للوزارات و القضاة و الولاة...
ويمارس رئيس الحكومة وظائف إدارية كالتعيين في المناصب السامية في الدولة خارج نطاق التعيينات الرئاسية، وتوزيع المهام بين الوزراء ورئاسة مجلس الحكومة و هو ما حددته المادة 85 من الدستور.
واعترفت المواد 91 و 92 و 93 لرئيس الجمهورية بممارسة سلطة الضبط الإداري سواء في حالة الطوارئ أو الحصار أو الحالة الاستثنائية وهو ما سنفصل فيه عند التطرق لنشاط الضبط الإداري.
ومن هذا الكم الهائل من المواد الواردة في دستور 1996 ذات العلاقة بالمجال الإداري يتبين لنا مدى عمق الصلة بين القانون الإداري و القانون الدستوري. فلا يمكن بحال من الأحوال الفصل بينهما أو حتى محاولة إنكار هذه العلاقة الوطيدة.
ومع اختلاف قواعد و مجال اختصاص كل من القانون الدستوري و القانون الإداري، إلا أنّ العلاقة بينهما تظل قائمة لذلك قيل " إنّ روح دراسة كل من القانون الدستوري و القانون الإداري في دولة ما تعتبر واحدة حتى يمكن تشبيه القانون الدستوري بأنه الصوت و القانون الإداري هو الصدى". وقيل أيضا أنّ الوظيفة العامة بذاتها وعن طريق الموظفين هي الأداة التي تسوس الحريات بجميع صورها و شتى مظاهرها الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية.
ثانيا: علاقة القانون الإداري بالقانون المدني وقانون الأسرة.
مما لا شك فيه أنّ القانون المدني يعتبر من أقدم فروع القانون، وأنّ قواعده تعد بمثابة شريعة عامة فيما يحكم روابط وعلاقات الأفراد خاصة في الجانب المالي و في مختلف أوجه التصرف سواء بالبيع أو الإيجار أو الرهن...
إنّ أبرز ميزة للقانون المدني أنه قانون المساواة و التوازن فهو ينظر لأطراف العلاقة القانونية نظرة واحدة و لا يفاضل بين مصلحة وأخرى، أو أن يزود متعاقد بسلطة حيال المتعاقد الآخر.
أمّا في مجال القانون الإداري فان العلاقة أو المراكز القانونية ينظر إليها بشكل مختلف تماما عما هو سائد في القانون المدني. فالإدارة باعتبارها طرفا في علاقة ما تحظى بمركز متميز و تمارس بموجبه جملة من السلطات تجاه الأفراد فهي تصدر القرارات الإدارية بإرادتها المنفردة ودون مشاركة الأفراد المعنيين بالقرار، بل وحتى دون رضاهم، ومع ذلك يلزم هؤلاء بتنفيذ هذا القرار و لا يجوز لهم التصدي تجاهه وإلا خضعوا للعقوبة الّتي حددها القانون.
كما أنّ الإدارة في مجال التعاقد لا تخضع لما هو سائد في القانون المدني بأنّ العقد شريعة المتعاقدين، بل يجوز لها من منطلق أنها سلطة عامة أن تعدل العقد الإداري بإرادتها المنفردة.ومن سلطتها أيضا أن توقع الجزاء المالي على المتعاقد معها دون حاجة للجوء للقضاء. و يجوز لها أن تفسخ العقد بإرادتها المنفردة دون أدنى داع لرفع دعوى الفسخ.
و تملك الإدارة أدوات ضغط كثيرة تجاه المتعاقد معها منها و سيلة التنفيذ الفوري لمضمون عقد التوريد على حساب المتعاقد مع الإدارة و هذا في حالة إخلال بالتنفيذ. وهذه الأحكام في مجموعها لا مثيل لها على صعيد القانون المدني وهي الّتي تضفي على القانون الإداري طابعا خاصا و مميزا كيف لا وقد أطلق على قواعده بالاستثنائية وغير المألوفة.
وينبغي الإشارة أنّ قواعد القانون الإداري بدأت تظهر للوجود بعد أن وصل الفقه إلى تحديد مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها مع قناعته أنّ القواعد التي تخضع لها ليست هي قواعد القانون المدني، بل قواعد بديلة تراعي مركز الإدارة و خصوصيتها. ورغم استقلالية القانون الإداري عن القانون المدني على نحو تقدم شرحه و بيانه، إلا أنّ العلاقة بينهما قائمة ولا يمكن هي الأخرى إنكارها بأي حال من الأحوال.
ومن أبرز صور العلاقة أنّ القانون المدني هو من يعلن عن الوجود المدني وعن الشخصية القانونية لأهم الجهات الإدارية كالدولة و الولاية و البلدية و المؤسسة العمومية ذات الطابع الإداري فهذه المادة 49 (تعديل 2005) اعترفت بالشخصية الاعتبارية لكل هذه الجهات المذكورة حتى تمكنها من مزاولة نشاطها و القيام بوظيفتها ويتم بموجب هذه الشخصية الاعتبارية الاعتراف لها بذمة مالية مستقلة وبأهلية التعاقد وبأهلية التقاضي و بنائب يعبر عن إرادتها و بموطن وهو ما ذكرته المادة 50 من القانون المدني.
ولا يتصور أبدا أن تمكن الجهة الإدارية سواء كانت مركزية أو محلية أو مرفقيه من القيام بوظيفتها و تلبية حاجات الأفراد دون توظيف وإعمال عناصر الشخصية الاعتبارية الواردة في القانون المدني.
واعترفت المادة 52 (تعديل 2005) لوزير المالية بأن يمثل الدولة في حالة المشاركة المباشرة في العلاقات التابعة للقانون المدني. ولم يكتف القانون المدني بإضفاء الطابع المدني لأشخاص القانون الإداري بل إلى جانب ذلك كفل حماية مدنية للأموال العامة بموجب المادة 689 منه، فلم تجز التصرف فيها أو حجزها أو تملكها بطريق التقادم وهذا بغرض المحافظة عليها من الزوال. إذ بغير هذه المادة لصار من الممكن الحجز على الممتلكات العامة المستخدمة لأداء النشاط الإداري من قبل القائم بالتنفيذ بما يشل يد الإدارة في تلبية الخدمة العامة وهو ما ينعكس سلبا على المنتفعين من خدمات المرفق العام. وبغير هذه المادة (689) من القانون المدني لصار جائزا التصرف في الأموال العامة بما يؤدي في النهاية إلى ضعف الوسائل المسخرة للإدارة لتلبية الخدمة العامة.
إن بسط الحماية المدنية الثلاثية من عدم جواز التصرف وعدم جواز الحجز وعدم جواز التملك بطريق التقادم يؤدي في النهاية إلى المحافظة على المال العام المملوك للمجموعة الوطنية.
وتضمنت قواعد القانون المدني أحكام المسؤولية في مجال الوظيفة العامة، فهذه المادة 129 (تعديل 2005) أقرّت بصراحة عدم مسؤولية الموظف العام الشخصية عن أفعاله التي تحدث ضررا بالغير إذا ثبت أن قيامه بها كان نتيجة تنفيذه لأوامره سلمية صدرت إليه.
وليس هناك أي مانع أمام القاضي الإداري أن يتبنى قواعد المسؤولية الشخصية أو المسؤولية عن الأشياء الواردة في القانون المدني. إنّ العلاقة بين فروع القانون الخاص و القانون الإداري لا تتوقف عند العلاقة بين القانون الإداري و المدني بل تمتد لفروع أخرى كقانون الأسرة. إذ أنّ القاضي الإداري قد يطبق على النزاع المعروض عليه أحكام و قواعد قانون الأسرة.
وكمثال تطبيقي القرار الصادر عن الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا بتاريخ 1997.01.05 قضية م.م ضد مديرية التربية لولاية البويرة الملف رقم 131778 أين طبق القاضي الإداري أحكام الكفالة الواردة في القانون المدني. وكذلك قرار المحكمة العليا في غرفتها الإدارية بتاريخ 19.01. 97 الملف رقم 116191 قضية ورثة ح.أ ضدّ رئيس المجلس الشعبي البلدي لعين العصافير ولاية باتنة إذا طبق القاضي الإداري على النزاع المعروض عليه أحكام الهبة الواردة في قانون الأسرة،.وكثيرة هي القضايا التي طبق عليها القضاء الإداري قاعد القانون الخاص.
واعترفت المادة 677 من القانون المدني للإدارة في الحالات الّتي حدّدها القانون وضمن شروطه وكيفياته بنزع الملكية العقارية مقابل تعويض عادل ومنصف و في حالة الاختلاف بشأن مبلغ التعويض جاز اللجوء للقضاء لتحديده.
كما اعترفت المادة 679 من ذات القانون للإدارة أن تمارس سلطة الاستيلاء.. وبينت المادة 680 الجهة الإدارية الممارسة لهذه السلطة وحددها كأصل عام بوالي الولاية أو أي جهة أخرى مؤهلة قانونا.
ثالثا: علاقة القانون الإداري بالقانون الجنائي.
قد يبدو لأول وهلة أن لا علاقة للقانون الإداري بالقانون الجنائي اعتبارا من أنّ الأول قانون سلمي لا يهتم بالسلوك الجرمي أيا ما كانت درجة خطورته، بينما الثاني يهتم بظاهرة الجريمة و يحدد لها عقابا مناسبا. غير أنّ مثل هذا التصور
و الحكم يتبدّد إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أنّ ظاهرة الجريمة موجودة في كل محيط بشري. وليس المحيط الإداري ببعيد عن ظاهرة الجريمة. بما ينبغي معه أن يتعرض مقترف الفعل الإجرامي للعقوبة التي يحددها القانون.
ورجوعا لقانون العقوبات الجزائري ولنص المادة 144 (القانون رقم 01/09المؤرخ في 26 جوان 2001) نجدها قد حددت عقوبة تتراوح من شهرين إلى سنتين و بغرامة من 1.000 دج إلى 500.000 دج أو بإحدى هاتين العقوبتين لكل من أهان قاضيا أو موظفا عموميا أو قائدا، أو أحد رجال القوة العمومية بالقول أو الإشارة أو التهديد أو بإرسال أو تسليم أي شيء إليهم بالكتابة أو الرسم غير العلنيين أثناء تأدية وظائفهم أو بمناسبة تأديتها وذلك بقصد المساس بشرفهم أو باعتبارهم أو الاحترام الواجب لسلطتهم.
وشددت المادة 148 في العقوبة من سنتين إلى 5 سنوات إذا حدث الاعتداء بالعنف أو القوة. كما وضعت المادة 155 عقوبة لمن يبادر إلى كسر أختام السلطة العمومية تتراوح من 6 أشهر إلى 3 سنوات. وكفلت المادة 158 لسجلات السلطات العمومية و عقودها و سنداتها حماية خاصة ضد الاعتداء عليها محددة عقوبة لهذا الفعل من 5 إلى 10 سنوات.
وجرّمت المادة 175 فعل التعرض لحرية المزايدات و المناقصات ووضعت لها عقوبة تتراوح من شهرين إلى 6 أشهر و بغرامة من 500 إلى0 200.00 دج.
وبينت المادة 183 جريمة العصيان باعتبارها شكلا من أشكال الهجوم على الموظفين أو ممثلي السلطة العمومية عندما يقومون بتنفيذ الأوامر و القوانين واللوائح. وحددت المادة 184 عقوبة للفاعل من 3 أشهر إلى سنتين و بغرامة من 500 إلى 1000 أو بإحدى هاتين العقوبتين. و شددت المادة 185 في العقوبة إلى ثلاثة سنوات في حدها الأقصى إذا وقع العصيان لأكثر من شخصين.
وحددت المادة 205 و 206 عقوبة من 5 سنوات إلى 20 سنة لكل من قلد أو زور طابعا وطنيا (ختما) أو دمغة أيا كانت المادة المستعملة. وجرمت المادة 214 فعل التزوير في المحررات العمومية أو الرسمية محددة أقصى عقوبة لها تتمثل في السجن المؤبد إذا وقعت من جانب الموظف وهذا إما بوضع توقيعات مزورة أو بإحداث تغيير في المحررات أو الخطوط أو بالكتابة في السجلات و غيرها من أشكال التزوير.
أمّا المادة 222 من قانون العقوبات فقد جرمت هي الأخرى فعل التزوير في الوثائق و الشهادات ووضعت لها عقوبة تترواح من 6 أشهر إلى 3 سنوات وغرامة من 1500 دج إلى 15000 دج. كما جرّمت المادة نفسها استعمال المزور مع تبيانها لصور هذا الاستعمال.
وجرمت المادة 223 فعل الحصول على وثائق إدارية بتصريحات كاذبة كالايصالات وجواز السفر و غيرها ووضعت لها عقوبة من 3 أشهر الى 3 سنوات و غرامة من 500 إلى 5000 دج.
وبيّنت المادة 242 من نفس القانون جريمة انتحال الوظائف العمومية ووحدت لها عقوبة من سنة إلى 5 سنوات. كما بينت المادة 244 أشكال الانتحال.
وكفلت المادة 301 من قانون العقوبات حماية خاصة لأسرار الوظيفة وجرمت الموظف في حال إفشاء هذه الأسرار ووضعت عقوبة لهذا الفعل تتراوح من شهر إلى 6 أشهر. وبينت المادة 350 من نفس القانون العقوبة المقررة لفعل السرقة وهذا بشكل عام ينطبق وصفه في المجال الإداري.
أمّا المادة 444 فقد كفلت حماية للطريق العام حتى لا يتأثر الجمهور في استعماله. وجرمت فعل وضع أو ترك مواد أو أشياء في الطريق العام محددة عقوبة الغرامة من 100 إلى 1000 دج. وجرمت المادة 453 فعل مخالفة اللوائح التنظيمية وحددت له عقوبة من 50 إلى 200 دج.
كما جرمت المادة 459 فعل مخالفة المراسيم و القرارات المتخذة قانونا من جانب السلطة الإدارية وان كانت قد وضعت لها عقوبة لا تنسجم مع درجة المخالفة وحددتها بما لا يزيد عن 3 أيام حبس.
وبالرجوع للقانون رقم 06 -01 المؤرخ في 20 فبراير 2006 المتعلّق بالوقاية من الفساد ومكافحته نجد المادة 6 منه ألزمت كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وأعضائها و الولاة و غيرهم بالتصريح خلال الشهرين الموالية للانتخاب أو التعيين وهذا أمام الرئيس الأول للمحكمة العليا. وهؤلاء الأشخاص المشمولين بالمادة السادسة من القانون المذكور هم يمارسون مهاما إدارية. وجاءت المادة 9 من ذات القانون لترسي المبادئ الأساسية لإبرام الصفقات العمومية كمبدأ علانية المعلومات المتعلقة بالصفقة و مبدأ الشفافية ومبدأ المنافسة الشريفة المبنية على أسس ومعايير موضوعية.
و اعترفت نفس المادة بحق الطعن بالنسبة لكل مترشح في حال عدم احترام الإدارة لقواعد إبرام الصفقة العمومية.
وبينت المادة 11 من القانون 06-01 مظاهر الشفافية في التعامل مع الجمهور من الحصول على المعلومات تتعلق بتنظيم الإدارة و سيرها. وتبسيط هذه الإجراءات وبنشر المعلومات والرد على العرائض و الشكاوي و تسبيب القرارات الإدارية و تبيان طرق الطعن فيها.
وجرمت المادة 25 منه فعل الرشوة ووضعت عقوبة له تراوحت بين سنتين إلى عشر سنوات و بغرامة من 200.000 دج إلى 1.000.000 دج.
كما جرّمت المادة 26 فعل الامتيازات غير المبررة في مجال الصفقات العمومية ووضعت له ذات العقوبة. وجرم المشرّع فعل الرشوة في مجال الصفقات ووضع له عقوبة تتراوح من 10 إلى 20 سنة و بغرامة من 1.000.000 دج إلى 2.000.000 دج وهذا ما أعلنت عنه المادة 27 من نفس القانون.
أمّا المادة 29 فقد جرمت فعل اختلاس الممتلكات من قبل الموظف أو استعمالها على نحو غير شرعي ووضعت لها عقوبة تتراوح من سنتين إلى عشر سنوات و غرامة من 200.000 إلى 1.000.000 دج. وذات العقوبة قررت لجريمة الغدر المرتكبة من قبل الموظف العام حين يقبل على تلقي أو اشتراط أو أن يأمر بتحصيل مبالغ مالية يعلم أنها غير مستحقة الأداء سواء لنفسه أو لصالح الإدارة أو لصالح الأطراف، وهذا ما ورد صراحة في نص المادة 30 من القانون المذكور.
وجرمت المادة 31 فعل التخفيض الغير قانوني للضريبة و الرسم الذي يقبل عليه موظف إدارة الضرائب وحددت له العقوبة من 5 إلى 10 سنوات و غرامة من 500.000 دج إلى 1.000.000 دج.
أما المادة 32 فقد جرمت فعل استغلال النفوذ من جانب الموظف ووضعت لهذه الجريمة عقوبة تتراوح من سنتين إلى 10 سنوات و بغرامة من 200.000دج إلى 1.000.000 دج.
وجرّمت نصوص كثيرة أفعالا لها علاقة بممارسة الوظيفة العامة من ذلك جريمة أخذ فوائد بصفة غير قانونية موضوع المادة 35 من القانون 01/06. والثراء غير المشروع موضوع المادة 37، وتلقى الهدايا موضوع المادة 38.
ومن هذا الكم الهائل من النصوص سواء المقرّرة في قانون العقوبات الجزائري أو في قانون الوقاية من الفساد ومكافحته نستنتج مدى عمق العلاقة بين القانون الإداري و القانون الجنائي. فالقواعد الجزائية أيا كانت منظومتها القانونية متى تعلقت بمجال الإدارة العامة فهي مسخرة لاشك لحماية الموظف من الغير، وحمايته من نفسه، حتى لا يقبل على ارتكاب أفعالا جزائية مستغلا في ذلك صفته الوظيفية. كما أنّ هذه القواعد الجزائية تحمي أموال الإدارة وممتلكاتها من كل فعل أو سلوك يؤدي إلى اختلاسها أو تبديدها أو نقل الانتفاع بها إلى الغير من غير مبرر أو مسوغ من القانون، لذلك ظهرت تسمية أخرى لفرع جديد من القانون هو القانون الجنائي الإداري.
ملاحظة قواعد قانون العقوبات في الدول العربية متشابهة يمكن الاستشهاد بأي قانون
رابعا: علاقة القانون الإداري بقانون الإجراءات المدنية والإدارية.
للقانون الإداري وثيق الصلة بقانون الإجراءات المدنية هذا الأخير الذي نظمت قواعده الدعوى أمام القضاء من حيث شروطها وقواعد الاختصاص (النوعي و المحلي) و سيرها وأدلة الإثبات وإصدار الأحكام وتنفيذها وطرق الطعن فيها.
وطالما كانت الإدارة غير بعيدة عن النزاع إذا الغالب أنها طرف مدعى عليه، فهي معنية هي الأخرى بالخضوع لقانون الإجراءات المدنية الصادر كمرحلة أولى بموجب الأمر 66-154 المؤرخ 8 جوان 1966 المعدل و المتمم. وكمرحلة ثانية بموجب القانون08/09. المؤرخ في 25 فبراير2008 المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية.
وبالعودة للأحكام المقرّرة في هذا القانون نجد المادة 7 من قانون الإجراءات الأول مثلا بينت الاختصاص النوعي للمجالس القضائية فاصلة بين الاختصاص الغرف الجهوية و الغرف المحلية. فعقدت الاختصاص بالنظر في دعوى الإلغاء ودعوى التفسير ودعوى فحص المشروعية الخاصة بالقرارات الصادرة عن الولايات (هكذا إطلاقا) للغرف الجهوية الخمس وهي: الجزائر ووهران و بشار و قسنطينة وورقلة. أمّا الغرف المحلية الموجودة إلى حد الآن على مستوى 35 مجلسا قضائيا فتختص بالنظر في دعاوى الإلغاء ودعاوى التفسير ودعاوى فحص المشروعية الموجهة ضد القرارات الصادرة عن رؤساء المجالس الشعبية البلدية وعن المؤسسات العمومية ذات الصيغة الإدارية. كما تختص بالنظر في دعاوى المسؤولية المدنية للدولة و الولاية و البلدية و المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية و الرامية لطلب التعويض.ورسمت المواد من800الى 806 من القانون الجديد الاختصاص النوعي للمحاكم الإدارية وكذلك الاختصاص الإقليمي.
وتبرز العلاقة في القانون الإداري بقانون الإجراءات المدنية والإدارية من حيث أنّ هذا الأخير هو الذي يبيّن تشكيلة المحكمة الإدارية و سلطة القاضي الإداري، و سير الجلسات وإجراءات المنازعة الإدارية وأدلة الإثبات وإصدار الأحكام في المادة الإدارية والطعن فيها. وكذلك يبين قانون الإجراءات المدنية الأصول الإجرائية لتنفيذ الأحكام القضائية. وجدير بالإشارة أنّ القانون 98-01 أحال بخصوص الإجراءات لقانون الإجراءات المدنية و هذا ما نصت عليه المادة 40 منه. كما أنّ القانون 98-02 كرس هو الأخر هذه الإحالة بموجب المادة 2 منه بما يؤكد أنّ قانون الإجراءات المدنية في الجزائر و حتىّ اليوم هو القانون العام في المادة الإجرائية.
خامسا: علاقة القانون الإداري بالقانون الدولي العام.
إن العلاقة بين القانون الإداري و القانون الدولي العام تبرز من خلال اهتمام كلا القانونين بالدولة كأحد أهم أشخاص القانون العام. غير أنّ مجال اهتمام القانون الإداري بها ينحصر بالأساس في النّشاط الداخلي ذو الطبيعة الخاصة أي الدولة باعتبارها صاحبة السيادة و السلطان، لا الدولة باعتبارها شخصا من أشخاص القانون الخاص.
بينما يهتم القانون الدولي العام بنشاط الدولة الخارجي مع بقية الدول في المجتمع الدولي وكذلك في علاقتها مع المنظمات الدولية، فكأنما القانونين ينظمان نشاط شخص معنوي عام واحد هو الدولة، لكن ضمن مجالين مختلفين، مجال للنشاط الداخلي تكفل به القانون الإداري. ومجال للنشاط الخارجي تكفل بتنظيمه القانون الدولي العام. ورغم التباعد في المجال، بل في طبيعة القواعد، إلا أنّ العلاقة بين القانون الإداري و القانون الدولي العام تظل قائمة لا يمكن إنكارها، ذلك أنّه لو نظرنا لمجال المنازعات الإدارية فانّه للإمكان أن نتصور أنّ القاضي الإداري كما يطبق نصا داخليا كقانون الوظيفة العامة أو قانون نزع الملكية أو القوانين العقارية أو قانون المالية قد يطبق نص معاهدة دولية على النزاع المعروض عليه إذا كانت الجزائر طرفا فيها ولقيت مصادقة من الجهات المخولة قانونا و تعلقت قواعدها بالنزاع الإداري المعروض على القاضي.
ويعود تأسيس إلزام القاضي الإداري بتطبيق نص المعاهدة إلى المادة 132 من الدستور و التي جعلت للمعاهدة المصادق عليهما من قبل رئيس الجمهورية بعد عرضها على البرلمان مرتبة ومركزا يعلوا القانون. فإذا كان القاضي الإداري ملزم بتطبيق القانون، فانّ إلزامه بتطبيق نص المعاهدة يكون من باب أولى اعتبارا من أنّ المعاهدة تعلو القانون.
فلو تصورنا أنّ نص المعاهدة تعلّق بحماية الموظف العام في مجال المساءلة التأديبية وكرّست المعاهدة إجراءا جديدا عندها يلزم القاضي الإداري بتطبيق هذا النّص اعتبارا أنه يعلو التشريع الداخلي.
وليس القاضي الإداري وحده من يطبق نصوص المعاهدة بل القاضي التجاري و القاضي العمالي و القاضي الشخصي و القاضي البحري و غير هؤلاء من القضاة متى كانت الواقعة المعروضة على القاضي مشمولة بنص المعاهدة، وإلا فما الفائدة أن يصادق رئيس الجمهورية على المعاهدة بعد عرضها على البرلمان ولا تنفذ من قبل الجهات المعنية و منها القضاء.
ونظرا للعلاقة الكبيرة بين القانون الإداري و القانون الدولي العام ظهر إلى حيز الوجود فرعا جديدا من فروع القانون هو القانون الدولي الإداري خاصة وأنّ المجتمع الدولي يسير بخطى ثابتة من أجل توحيد التشريعات في المجال الواحد ومنه الإداري.
وتتجلى لنا تطبيقات القضاء الإداري الجزائري للنصوص الدولية و الخارجية من خلال قرار مجلس الدولة الغرفة الخامسة ملف رقم 002111 بتاريخ 08-05-2000 قضية يونين بنك ضد محافظ نبك الجزائر، و تتلخص وقائع هذه القضية أنّ اللجنة المصرفية ببنك الجزائر رفضت توكيل المحامية الفرنسية المسماة جوال موسار مسجلة بنقابة المحامين لباريس بحجة أنها لم تقدّم رخصة لممارسة نشاط الدفاع بالجزائر مسلّمة من قبل نقيب المحامين وفق ما تنص على ذلك المادة 6 من القانون 04.91 المؤرخ في 1991.01.08 المتضمن تنظيم مهنة المحاماة، غير أنّ هيئة الدفاع ليونين بنك تمسكت بتطبيق المادة 16 من البروتوكول القضائي المبرم بين الجزائر و فرنسا بتاريخ 1962.08.28 والذي يعفي المحامي الفرنسي من تقديم رخصة للمرافعة أمام الجهات القضائية الجزائرية و يلزم فقط باختيار مقر محامي. وقد قامت المحامية الفرنسية باختيار مقر محامي هو الأستاذ عبلاوي و بالتالي احترمت سائر الإجراءات المنصوص عليها في البروتوكول القضائي. وعليه انتهى مجلس الدولة إلى إبطال القرار المطعون فيه.
سادسا: علاقة القانون الإداري بالقانون المالي.
يهتم القانون المالي أو علم المالية العامة كما يطلق عليه بجوانب النشاط المالي للدولة سواء تعلّق هذا النشاط بالنّفقات العامة للدولة أو بإيراداتها العامة أو بميزانيتها من أجل الوصول إلى إشباع الحاجات العامة.
ومن هنا تبدو العلاقة قائمة بين القانون المالي و القانون الإداري، فالأجهزة الإدارية المختلفة سواء مركزية (الوزارات) أو المحلية (الولايات و البلديات) أو المرفقية (المؤسسات العمومية الإدارية) و غيرها من الهيئات، تحتاج لممارسة نشاطها لنفقات عامة تمكنها من أداء مهامها المختلفة بهدف إشباع حاجات الأفراد و القيام بأعباء السلطة العامة.
من أجل ذلك يقف سنويا أمام البرلمان مختلف الوزراء بغرض الحصول على الإعتمادات المالية لقطاعاتهم وهذا تطبيقا للمادة 122 من الدستور الفقرة 12.
إنّ العلاقة الوطيدة بين القانون المالي و القانون الإداري تتضح من خلال اهتمام القانون الإداري بالمال العام والمال الخاص المملوك للدولة و هيئاتها المختلفة. كما يهتم بنزع الملكية و هو محور أيضا يلقى اهتماما لدى المختصين في العلوم المالية عند البحث خاصة في جانب الإيرادات.
كما أنّ العلاقة تبرز أيضا من خلال منازعات الضرائب فهي تصنف في النظام القضائي الجزائري على أنها منازعات إدارية يؤول الاختصاص بالنظر فيها للقاضي الإداري.
ولقد نجم عن هذه العلاقة الكبيرة و الوثيقة بين القانون الإداري و القانون المالي أنّ بعض المختصين في القانون سواء في فرنسا أو الجزائر أو مصر ساهموا في إصدار مؤلفات في المالية العامة..
وتبرز العلاقة بين القانون الإداري و القانون المالي أن تنفيذ الأحكام الإدارية فيما يتعلق بالجانب المالي منها تنفذ عن طريق الخزينة العامة وهذا طبقا للقانون 02/91 المؤرخ في 8 جانفي 1991. حيث يلزم من صدر الحكم لصالحه ضد إدارة عمومية بإيداع نسخة تنفيذية من الحكم وكل الوثائق و المستندات التي تثبت بأن جميع المساعي لتنفيذ الحكم بقيت دون جدوى لمدة شهرين. وعندها يقوم أمين الخزينة تلقائيا بالأمر بسحب المبلغ من حساب الهيئة المحكوم عليها لصالح الطرف الدائن.
وانطلاقا من هذا الدور ساهمت الخزينة العمومية وهي جهاز تابع وصائيا لوزارة المالية بتنفيذ الأحكام في المادة الإدارية بما يؤكد العلاقة بين القانون الإداري و القانون المالي.
المبحث الثاني:خصائص القانون الإداري
يتميّز القانون الإداري بمجموعة خصائص أضفت عليه طابعا مميزا و جعلت منه قانونا مستقلا وله ذاتيته الخاصة. ومن هذه الخصائص أنه حديث النشأة يتسم بالمرونة ودائم الحركة كثير التطور إلى جانب ذلك أنّه قانون غير مقنن ومن منشأ قضائي نوجز هذه الخصائص فيما يأتي:
المطلب الاول:القانون الإداري حديث النشأة:
سبق القول عند الحديث عن نشأة القانون الإداري أنّ هذا الفرع من القانون ظهر للوجود على يد محكمة التنازع ومجلس الدولة الفرنسيين ابتداء من المرحلة التي أعترف فيها لمجلس الدولة بالسلطة التقريرية ولم يعد جهة رأي واقتراح.
ومعنى ذلك أنّه قبل 1872 لا يمكن الحديث في علم القانون عن فرع اسمه القانون الإداري بالمعنى الفني كمجموعة قواعد استثنائية غير مألوفة في مجال القانون الخاص تحكم نشاط الإدارة و تنظيمها ومنازعاتها.
ولقد قلنا سابقا أنّ نشأة هذا القانون بالذات ارتبط بالظروف السياسية التي مرت بها فرنسا. وهذا أمر طبيعي طالما كان القانون الإداري يحكم السلطة التنفيذية في تنظيمها و عملها وعلاقاتها و منازعاتها.
ولا شك أنّ هذه السلطة في الزمن السابق للثورة كانت على الغالب الأعم لا تخضع للرقابة القضائية. ولا يسأل أعوانها عما سببوه من ضرر للغير. ومع التطور الذي طرأ على المجتمع الفرنسي خاصة بعد الثورة أصبحت الإدارة تسأل عن أعمالها التي تسبب ضررا للغير. وتخضع في نشاطها للرقابة القضائية. وهو ما ثبت عملا كما رأينا في قضية بلانكو الشهيرة.
وهكذا فإن تغير نمط الحكم في فرنسا عقب الثورة وما تبعه من تشريعات كان له أثر كبير في ظهور القواعد الغير مألوفة أو القانون الإداري بالمعنى الفني. وحري بنا التنبيه أنّ حداثة نشأة هذا الفرع من القانون شكلت ولو نسبيا عائقا يقف وراء غموض كثير من مصطلحاته إلى غاية اليوم نذكر منها المرفق العام والسلطة العامة و المنفعة العامة...الخ
ورغم الجهود المبذولة من قبل الفقه و القضاء في فرنسا وخارجها فان بنيان هذه القانون لم يكتمل بعد.
المطلب الثاني: القانون الإداري يتسم بالمرونة و التطور:
لماّ كان القانون الإداري يهتم أساسا بالإدارة العامة ويحكم نشاطها فانّه تبعا لذلك وجب أن يكون قانونا متطورا لا يعرف الاستقرار ذلك أنّه ما صلح للإدارة اليوم قد لا يكون كذلك في وقت لاحق.
وتأسيسا على ذلك وجب أن يتكيف هذا القانون مع متطلبات الإدارة وفقا لما يتماشى ووظيفتها في إشباع الحاجات العامة للجمهور. وهذا الهدف وحده نراه في حركة دءوبة ودائمة. الأمر الذي سينعكس في النهاية على أحكام ومبادئ القانون الإداري فيجعلها قابلة للتطور و التغيير.
وإذا كانت قواعد القانون المدني و التجاري و البحري مثلا رغم ثباتها النسبي قابلة للتعديل من زمن إلى آخر، كلما اقتضى الأمر ذلك، فإنّ قواعد القانون الإداري و هي التي تتسم بعدم قابليتها للتقنين و الحصر كأصل عام ستفسح مجالا في حالات كثيرة للإدارة لاختيار القاعدة التي تليق بها. كما أنّ القضاء ذاته صرح في كثير من أحكامه و قراراته ومنها بلانكو المشار إليه أنّ أحكام هذا القانون قد تتغير بحسب مقتضيات المرفق العام.
ولا نجانب الصواب عند القول أنّ هذه المرونة كانت أحد أهم الأسباب التي حالت وتحول دون تقنين القانون الإداري. فإذا كانت خطوات الفرد وعلاقته محدّدة ومعلومة ويمكن معرفتها و التنبؤ بها وتنظيمها بمقتضى نصوص رغم تشعبها، فإنّ الأمر لا يكون كذلك إذا دخل في الاعتبار عنصر الإدارة العامة مما يتعذر معه التنبؤ بالنشاط مسبقا، وبالظروف المحيطة به، وتفاعل الإدارة مع هذه الظروف، وموقف القاضي منها...
ولا شك أن هذه المرونة ازدادت سعتها وامتد نطاقها بظهور ميادين وقطاعات جديدة أفرزها تدخل الدولة في مجالات كانت الإدارة بعيدة عنها فيما مضى كالنشاط الاقتصادي و الاجتماعي.
ولا تفوتنا الإشارة أنّ التقدم العلمي و التكنولوجي أيضا يساهم في إنشاء نشاطات إدارية مختلفة و التحكم فيها. فالاختراعات العلمية و الاكتشافات الكثيرة و المتنوعة وما لازمها من ظهور لمشروعات متنوعة أدى إلى تدخل الدولة لمباشرة هذه النشاطات والإشراف والرقابة عليها بما يؤدي إلى سيطرتها على مختلف أوجه النشاط وتنظيم الحركية الاقتصادية بهدف إشباع الحاجات العامة للجمهور.
المطلب الثالث: القانون الإداري غير مقنن:
يقصد بالتقنين تجميع رسمي لأهم المبادئ القانونية بخصوص مسألة معيّنة في منظومة تشريعية كأن نقول القانون المدني أو القانون التجاري أو البحري. والتقنين على هذا النحو عملية تشريعية تتمثل في إصدار تشريع يضم المبادئ والقواعد التي تحكم فرعا معينا من الروابط و العلاقات.
ويظهر التقنين نتيجة جهود تقوم بها كل من السلطة التشريعية داخل كل دولة وكذلك جهود السلطة التنفيذية. كما يساهم الفقه أيضا وكذلك القضاء بشكل غير مباشر في ظهور التقنين.
ويأخذ ظهور التقنين زمنا غير قصير. وكلّما تضافرت الجهود من أجل صياغة تقنين معين كلّما ظهر التشريع في صورة يخلو من الثغرات القانونية والأخطاء.
ولاشك أنّ تقنين القاعدة وتبيان ألفاظها وحصر معانيها يؤدي إلى وضوحها فيسهل على القاضي معرفة مقصد المشرع ونيته من خلال ما أقره من قواعد مقننة. ومن ثمّ يسهل عليه الإلمام بها وتطبيقها أحسن تطبيق.
ولقد سبق البيان أنّ التشريع في غير المجال الإداري يتسم بالثبات ولو نسينا بحكم إمكانية التنبؤ بالعلاقة وما قد تثيره من إشكالات. ومن ثمّ فانّ مهمة المشرّع تكون يسيرة وهو يضع قواعد للقانون المدني أو التجاري أو البحري. وخلاف ذلك تماما تكون المهمة في غاية من التعقيد و العسر إن هو حاول حصر وجمع مختلف القواعد الّتي تنظم شتى صور النشاط الإداري بمجالاته المختلفة. من أجل ذلك ذهب الدكتور سليمان محمد الطماوي إلى القول: " إنّه لو قدر لهذا القانون أن يقنن لأصبح أكثر القوانين عرضة للتغيير و التبديل...".
و إذا ما أتينا لحصر الأسباب التي تحول دون تقنين القانون الإداري لأمكن جمعها فيما يلي:
أ- حداثة نشأة هذا القانون: إنّ هذا القانون كما بينّا سابقا حديث النشأة فقواعده لم تظهر إلا في أواخر القرن 18 ولازالت لحد الساعة في طور التكوين. وهذا خلافا لقوانين أخرى كالقانون المدني و الجنائي و المالي يعود ظهورها إلى قرون خلت.
ب- مرونة النشاط الإداري: إنّ مرونة النّشاط الإداري وقابليته للتطور و صعوبة التنبؤ بمختلف جوانب النشاط الإداري وما يحيط به من إشكالات قانونية، كلها عوائق تقف دون إمكانية جمع مختلف أحكام ومبادئ القانون الإداري.
وإذا كان عدم التقنين يشكل أحد الخصائص التي تميّز القانون الإداري، فإنّه من جهة أخرى يعتبره البعض عيبا من عيوب هذا القانون ذلك أنّ عدم التقنين ينجر عنه عدم وضوح القواعد التي تحكم الإدارة العامة وعدم ثباتها مما يجعل في النهاية قواعد هذا القانون سرية لا يعلمها إلا من تخصص في القانون الإداري أو كان على صلة مباشرة بالإدارة مما يفقد أيضا الأفراد شعورهم بالاطمئنان خوفا من مراكزهم القانونية التي قد يصيبها الاهتزاز.
ونظرا لما أسفرت عنه ميزة عدم التقنين من نتائج، وهي أحد مساوئ القانون الإداري في نظر البعض، كثرت الصيحات التي تنادي بضرورة تقنين هذا القانون وجمع قواعده وأحكامه في منظومة واحدة. غير أنّ طبيعة هذا الفرع تأبى من أن يقنّن في مجموعة تشريعية شاملة تحكم مختلف أوجه النشاط الإداري.
وإذا كانت القاعدة العامة هي عدم قابلية القانون الإداري للتقنين و الحصر فانه استثناء من ذلك يجوز تقنين بعض لجوانب التنظيم الإداري أو النشاط الإداري أو وضع قواعد إجرائية تحكم منازعات الإدارة أو موظفيها أو أموالها أو بعض سلطاتها.
المطلب الرابع: القانون الإداري قانون قضائي:
أجمعت مختلف الدراسات أنّ القضاء خاصة الفرنسي ممثلا في مجلس الدولة لعب دورا رائد في إظهار القانون الإداري إلى حيز الوجود. ذلك أنّ مجلس الدولة وفي مرحلة القضاء المفوض، حين عرضت عليه منازعات الإدارة رفض إخضاعها للقانون الخاص وفي غياب كامل لنصوص أخرى تحكم نشاط الإدارة. الأمر الذي فرض عليه تقديم البديل وإيجاد النصوص الّتي تلائم متطلبات الإدارة العامة. وشيئا فشيئا وحال فصله في المنازعات الإدارية المعروضة عليه استطاع المجلس أن يرسي قواعد قانونية من العدم وعرف من خلالها كيف يوازن بين المصلحة العامة أي حقوق الإدارة و سلطتها من جهة، وحقوق الأفراد من جهة أخرى. وهذه القواعد أصطلح عليها فيما بعد بالقانون الإداري.
وتدفعنا ميزة المنشأ القضائي للقانون الإداري التمييز بين القاضي العادي والقاضي الإداري. فالأول قاض تطبيقي أي أنّه يتولى تطبيق النصوص على القضايا المعروضة عليه. فإذا كان النزاع مدنيا لجأ للقانون المدني وان كان تجاريا لجأ للقانون التجاري وهكذا...بينما تتجلّى مهمة القاضي الإداري أنّه كأصل قاضي تأسيس و إبداع وإنشاء، فهو الذي يبدع القاعدة في حال عدم وجودها و تطبيقها على النزاع المعروض عليه، وهي مهمة في غاية من الصعوبة.
من أجل ذلك تمتّع القاضي الإداري بسلطات أوسع من القاضي المدني، سلطات من شأنها أن تساعده على إقرار قاعدة عادلة تحكم النزاع الذي بين يديه خاصة وأنّ أحد أطراف النزاع سلطة عامة (السلطة التنفيذية) وتتمتع هي الأخرى بامتيازات وسلطات. ومن ثمّ كان لزاما تزويد القاضي بسلطة أوسع لإخضاع الإدارة للقانون تكريسا وتطبيقا لمبدأ المشروعية.
الخاتمة:
شاركنا بتعليقك...