الدبلوماسية
نشاتها و تطورها و قواعدها
ونظام الحصانات و الامتيازات الدبلوماسية
تأليف: د. علي حسين الشاميالناشر: دار الثقافة - عمان
الطبعة: الثالثة 1428 - 2007
إالدبلوماسية نشاتها و تطورها و قواعدها ونظام الحصانات و الامتيازات الدبلوماسية ضافة شرح |
التأليف الجامعي جزء مهم من رسالة الجامعة. والتدريس الجامعي إذا لم يتجسد، ولو بعد حين، في مؤلفات ودراسات منشورة بقي منزوياً في فكر صاحبه وخواطر طلابه. والأستاذ الجامعي ليس معلماً لرعيل من الأجيال فقط، وإنما هو أيضاً بحّاثة ينهل الجميع من غزارة علمه وخبرته. والأقطار المتنامية تحتاج، أكثر من غيرها، إلى فكر الأساتذة الجامعيين لأنهم يمثلون فيها النخبة المثقفة القادرة، بما تحمل من معرفة وتطلعات، على القيام بمهمة التوجيه والتقدير والتحليل.
واطّلاعنا على كتاب الزميل الدكتور علي الشامي أوحى إلينا بثلاث كلمات موجزة سريعة. كلمة في المؤلّف، وكلمة في الدبلوماسية، وكلمة في الأزمة التي تعانيها الدبلوماسية العربية. أولاً ــ كلمة في واضع الكتاب عندما قدّم إلينا الزميل مخطوطته عن "الدبلوماسية" (المخطوطة التي أصبحت الآن مؤلفنا في متناول الجميع)، شعرنا بغبطة عارمة، وذلك لأسباب ثلاثة: لأن الزميل، بوضعه هذا المؤلف الضخم في هذه الظروف العصيبة بالذات، استطاع أن يتغلّب على تيّار، كاد يستفحل، من اليأس والإحباط؛ ولأنه، بإقدامه على الإنتاج الفكري في رحاب الجامعة اللبنانية، أتى بإثبات جديد على وجوب الارتباط والتفاعل بين الجامعة والمجتمع؛ ولأنه، بتصميمه على التأليف في المادة الجامعية التي يُدرِّسها، كان قدوةً حسنةً لبقية زملائه. 1 ــ فالأحداث اللبنانية الدامية التي تمخّضت عن أوضاع أمنيّة متردية وأحوال معيشية صعبة أوجدت، لدى الكثير من المثقفين اللبنانيين الذين آثروا البقاء في الوطن، تيّاراً من اليأس والإحباط دفعهم إلى الاكتفاء بمراقبة الأحداث اليومية، وصرفهم عن الإنتاج الفكري الرصين. وكانت حجتهم في ذلك أن الإنسان لا يستطيع الانصراف إلى التفكير السليم والتحليل العميق والإبداع المثمر في جوّ يسوده القلق النفسي، والبحث المضني عن لقمة العيش، والسعي المتواصل لتأمين سلامة الحياة، له ولذويه. وإذا كانت هذه الحجة تنطوي على شيء من الصواب فهي ليست مطلقة ولا تشكّل عقبةً كأداء تفجّر الإبداع، فروائع الفكر العالمي ونفائس التراث الإنساني وُضعت في غمرة ظروف مادية ونفسية قاسية، وفي أجواء مشحونة بالاضطراب ومشوبة بالمعاناة وحافلة بالألم والمرارة. ألم بقل الشاعر: "وأبلغ ما في الحياة الألم"؟ فالإنسان المثقف الملتزم يستطيع الصمود أمام الأهواء والعواصف، وتخطّي الصعوبات والعراقيل، وتحويل المعاناة والقنوط إلى محرك للإبداع وأداة للإفصاح عن خوالج الفكر والضمير. ولقد أثبت الزميل الكريم، الذي تحمّل من الشدَّة ما تحمّله الآخرون، أن الإرادة الواعية قادرة دائماً على لجم الآلام، واحتواء الأنواء، وتذليل العقبات، وإنجاز الأهداف، ولو كان ذلك على حساب الأعصاب المشدودة، أو أنقاض الراحة المفقودة. فالزميل قرّر، في خضم الأحداث، اغتنام كل فرصة سانحة لملء الفراغ وإرضاء النفس وتأدية رسالة المعلم، فأتحفنا بهذا المؤلف الذي يزخر بمعلومات قيّمة عن مختلف الجوانب النظرية والتطبيقية والفقهية المتعلقة بموضوع الدبوماسية، والذي سيسهم، ولا شك، في إثراء التراث العربي في مجال الفكر السياسي. 2 ــ والجامعة اللبنانية التي لنا شرف الانتساب إليها تطمح، منذ إنشائها، إلى أن تكون مصنعاً لرجال الغد، ومختبراً للفكر المتطور المتجدّد، ومركزاً للأبحاث والدراسات التي تعالج قضايا المجتمع. فالجامعة لا تنشأ في صحراء ولا تعيش في خلاء، بل تقوم وتتحرك في مجتمع وطني، تتأثر به وتؤثر فيه، تتفاعل معه وتلبي حاجاته، تتحرّى همومه ومشكلاته وتحاول اقتراح الحلول الناجعة لها. والأوطان الصغيرة تسعى لامتلاك دبلوماسية سليمة وناجحة، لأن هذه الدبلوماسية تشكل سلاحاً فاعلاً يساعدها على تعزيز سياستها الخارجية والتصدّي للأخطار والمؤتمرات والدسائس التي قد تواجهها في علاقاتها بالغير. وبين الدبلوماسية والجامعة صلة وثيقة، ففي الجامعة تعدّ الدراسات، وتناقش المواقف، وتحلل النتائج، وتستعرض الأخطاء، وتستخلص الدروس المتعلقة بحسن سير الدبلوماسية. وهناك دول تعهد إلى جامعاتها، أو بالأحرى إلى مراكز الدراسات السياسية فيها، بتشريح الوضع الدبلوماسي فيها وإعداد المناهج والمخططات التي ينبغي لها اتباعها في علاقاتها الخارجية. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أرادت تحديد علاقاتها المستقبلية ببعض الدول ، كاليابان، وببعض المناطق المهمة، كأوروبا الغربية والكتلة الاشتراكية. بل إن هناك دولاً تعهد بإدارة سياستها الخارجية إلى أساتذة جامعيين اشتهروا بتفوّقهم في الأبحاث والنظريات السياسية وفي استشراف آفاق المستقبل. ولبنان، كبقية الأقطار العربية، يُعاني أزمة ترسيخ معالم دبلوماسيّته وتطوير عملها. وهو يحتاج إلى الكثير من الدراسات المتخصِّصة في الفكر أو العمل الدبلوماسي. ونرجو أن يكون هذا الكتاب الجديد إسهاماً أو خطوةً في هذا السبيل. 3 ــ ومن الظواهر التي تسترعي الانتباه في الجامعة اللبنانية قلّة الإنتاج الفكري الإبداعي، وخصوصاً إذا علمنا أن عدد الأساتذة المتفرغين والمتعاقدين بالساعة في مختلف كلياتها ومعاهدها يصل إلى الألفين تقريباً. صحيح أن عدداً لا يُستهان به من الزملاء قد أتحف الفكر العربي بمؤلفات رائعة في حقل اختصاصه، وصحيح أن بعض هذه المؤلفات فاز بجوائز تقديرية من بعض المؤسسات العلمية العربية، وحظي بسمعة رفيعة تعتزّ بها الجامعة، وغدا مرجعاً لا يستغنى عنه لمعظم الباحثين، إلا أن هذه الجهود المباركة لا تُوازي الآمال المعقودة والمرتقبة، ولا تتناسب، من حيث الكمية والنوعية، مع الفرص المتوافرة والإمكانات المتاحة والطاقات الكامنة. إن العمل الفكري هو مهنة الأستاذ الجامعي، فإذا تقاعس عنه في بداية حياته الجامعية فاته القطار، وفترت همته، وترك الجامعة كما دخلها لا يحمل تحت إبطه إلا أطروحة الدكتوراه. ونأمل في أن يكون الزميل علي الشامي، الذي لم يتوقف عن الكتابة منذ حصوله على شهادة الدكتوراه، قدوةً طيّبة تحثّ بقية الزملاء على الإسراع في حمل القلم. ثانياً ــ كلمة في الدبلوماسية للدبلوماسية، كعلم إنساني أو معرفة إنسانية، قواعد وأصول. فهناك قانون دبلوماسي. وهذا القانون ليس سوى جزء أو فرع من القانون الدولي العام الذي تشعّب، في السنوات الأخيرة، وتحوّل إلى أكثر من مادة تُدرّس في الجامعة. والقانون الدبلوماسي، بحكم اختصاصه واهتمامه، لا يختلف كثيراً عن القانون الدولي العام الذي يُعنى بتنسيق العلاقات الخارجية واستمرار الروابط السليمة بين الدول، فهو قانون دولي يقتصر اهتمامه على معالجة المسائل والشؤون المتعلقة بالدبلوماسية. وإذا أردنا تحديد المكان الذي يشغله في نطاق القانون الدولي العام لقلنا إنه مكان التدابير والإجراءات الخاصة بالعلاقات المتبادلة بين الدول في وقت السلم. ولهذا شبّه البعض علاقته بالقانون الدولي بعلاقة قانون المرافعات (أو أصول المحاكمات) بالقانون الخاص. ثم إن الدبلوماسية علم وفن. هي علم، لأنها تقوم على أسس، وتعتمد على قواعد، تخضع لأصول، وتتطلب إلماماً عميقاً بكل جوانب القانون الدولي، ومعرفة دقيقة بكل مراحل التاريخ الدبلوماسي، وإحاطة شاملة بكل أنواع المعاهدات الدولية. وهي فن، لأنها تتطلب مواهب وطاقات وكفايات معينة لا تتوافر في أي إنسان. فالشهادة الجامعية وحدها لا تكفي. والأصل العائلي أو الطبقي وحده لا يكفي. والمباريات أو التعيينات التي تعتمدها الدولة (وخصوصاً في العالم الثالث) لا تكفي. إن الدبلوماسي شخصية سياسية تتميّز (أو يجب أن تتميّز) بمجموعة من المواهب مثل: حدة الذكاء، والقدرة الخارقة على الفهم والهضم والاستيعاب، وسرعة الخاطر والبديهة، وإجادة أكثر من لغة (وخصوصاً لغة الدولة المعتمد لديها)، وحسن التصرّف والتعامل مع الغير، ولا سيما في فترات الأزمات والمآزق، والبراعة في تمثيل مصالح دولته والدفاع عن حقوق مواطنيه وحرياتهم وتسهيل أعمالهم ومعاملاتهم، والمهارة في إجراء المفاوضات وإدارتها مع الحرص على تعزيز مكانة دولته، والتمسك بأهداف الاستقامة والأمانة والصدق والإخلاص في كل ما يعمل، فالدبلوماسي في الخارج مرآة تعكس صورة الدولة التي يُمثّلها. وهنا، لا بدّ لنا من الإشارة إلى أمرين مهمين: الأول: هو التعريف السيء الذي انتشر في القرن السابع عشر بسبب الكلمة التي أذاعها السير هنري ووتون Sir Henry Wotton، أحد كبار رجال السياسة والدبلوماسية في بريطانيا، في عهد الملك جيمس الأول (1566 ــ 1625)، فقد عرّف الدبلوماسي بأنه "رجل شريف تبعث به دولته ليمتهن الكذب، خارج بلاده، في سبيل مصلحتها". وهذا التعريف الذي ردَّده الكثيرون، منذ ذلك الحين، أساء إلى سمعة الدبلوماسي ونشر ضباباً من الشك والريبة حول مهتمه. وإذا كان بالإ‘مكان ترير هذا التعريف في الماضي، أي في العهود الأوروبية التي كانت الدبلوماسية فيها تّتسم بالنفاق والجاسوسية والسرية والتآمر، فإن التعريف لم يعد صالحاً للتطبيق في عصرنا الراهن الذي يتميز بانتشار الأنظمة الديمقراطية، وتقلّص الدبلوماسية السرية، وانضمام الدول إلى المنظمات العالمية، وتحريم اللجوء إلى القوة أو التهديد باستعمالها. والأمر الثاني: هو الدور الذي كان يقوم به الدبلوماسي في مجال توطيد العلاقات الدولية أو إيهانها. فكتب التاريخ حافلة بالأمثلة والشواهد على دور بعض الدبلوماسيين في تأجيج الفتن والخلافات بين الدول، أو، بالعكس، في بذل المساعي لتقريب وجهات النظر ورأب الصدع وإيجاد الحلول السلمية لبعض المنازعات. ويعزو بعض المؤرخين اندلاع الحرب العالمية الأولى إلى تواطؤ رجال السلك الدبلوماسي في الدول الكبرى وتقصيرهم في تحمّل مسؤولياتهم الإنسانية. وعلى الرغم من تضاؤل هذا الدور اليوم، بسبب انتقال القرار والتقرير والتقدير إلى المؤسسات الديمقراطية في الدولة، فلا يسعنا إغفال أثر التقارير التي يرفعها الدبلوماسي إلى سلطات دولته في توجيه سلوكها وتصرفاتها وتكييف مواقفها وردود فعلها. ثالثاً ــ كلمة في أزمة الدبلوماسية العربية عندما نُلقي نظرة عجلى على وضع الدبلوماسية العربية نكتشف بسرعة مواطن الضعف والخلل فيها. وإذا كان هناك تأثير متبادل بين السياسة بكل جوانبها، والدبلوماسية بكل مظاهرها، فالوهن الذي أصاب السياسة العربية منذ استقلال الأقطار العربية (ولا سيما منذ اغتصاب فلسطين) انعكس سلباً على الدبلوماسية العربية. ثم إن الهزائم العسكرية المتلاحقة التي شهدتها تلك الأقطار وتركت أعمق الأثر في نشاط تلك الدبلوماسية. ولو بحثنا عن عوامل هذا الخلل الدبلوماسي العربي لوجدنا أنها تكمن، في الدرجة الأولى، في ثلاثة عناصر تُعتبر الركائز الأساسية لنجاح كل عمل دبلوماسي على صعيد عربي: عنصر الرجال، وعنصر الوزارات، وعنصر التنسيق. 1 ــ فالسلك الدبلوماسي العربي يفتقر، إلى حدّ كبير، إلى رجال يتمتعون بالموهبة الدبلوماسية. وهذه الموهبة لا تُكتسب، كما ذكرنا، بالشهادة أوالمنبت أو المباراة أو الانتخاب، بل تولد مع الإنسان وتُصقل بالعلم والممارسة والاطلاع. قد يجد البعض مبرراً لهذا النقص في خضوع الأقطار العربية، مدةً طويلة، للاستعمار أو الحماية أو الانتداب، وفي حرمانها من مناهل الثقافة السياسية. ولكن الفترة الزمنية التي انقضت منذ نيل الاستقلال كافية لتلافي النقص وسدِّ الفراغ وإعداد الأطر البشرية اللازمة. ونلاحظ أن معالم الخلل الدبلوماسي التي ظهرت في البداية لم يطرأ عليها، بعد ثلاثين سنة أو أكثر من الاستقلال، أي تغيير مهم يُذكر. ويمكننا إجمال هذه المعالم بأمور أربعة: أ-الأسلوب السيء في اختيار الدبلوماسي العربي: فالغالبية العظمى من الدول العربية لا تعتمد طريقة الانتقاء والكفاية والإعداد لاختيار رجال السلك الدبلوماسي فيها، بل تعتمد الأسلوب العشائري العشوائي الذي يقوم على مدى الصداقة أو القرابة التي تربط السياسي بالدبلوماسي. وهناك دول عربية جعلت من السلك الدبلوماسي وسيلة رائجة لمكافأة المقرّبين والمتزلّفين، أو للتخلص من السياسيين المزعجين، أو لإبعاد العسكريين الخطرين، أو لإرضاء أصحاب النزوات من الانتهازيين. ب-الضعف الظاهر في المستوى اللغوي والثقافي: فالقسم الأعظم من دبلوماسيينا لا يُتقن لغة أجنبية واحدة. ومنهم من لا يُجيد لغته القومية. ومن الصعب على الدبلوماسي العربي القيام بمهمته على الوجه المقبول إذا كان يجهل لغة الدولة المعتمد لديها. والغريب أن انخفاض المستوى الثقافي لدى العديد من الممثلين الدبلوماسيين العرب يكاد يكون ظاهرة عامة. فهم قلَّما يقرأون ويطالعون ويتبحّرون في أمور السياسة الدوليّة. وهم قلّما يعكفون على دراسة أوضاع الدولة المعتمدين لديها ليتعرفوا إلى معضلاتها وهمومها وتطلعاتها. وهم قلّما يشاركون في أوجه النشاط الثقافي والاجتماعي الذي تشهده الدولة. ج-الإهمال في تحسين المستوى الاجتماعي: فالدبلوماسي العربي يجد صعوبة في الاندماج في المجتمع الأجنبي، وذلك بسبب البيئة التي ينتمي إليها، أو الطريقة التي يُختار بها، أو الضعف اللغوي والثقافي الذي يُعانيه، أو الزوجة العاجزة عن مساعدته في أداء رسالته لأنها ليست، في الأصل، مؤهلة أو مهيَّأة للعمل الدبلوماسي. د-الشعور الدائم بعدم الاستقرار والاطمئنان: فالدبلوماسي العربي الذي يختاره الحاكم يشعر، في كل لحظة، بأن مصيره مرتبط ببقاء هذا الحاكم. وبما أن الوطن العربي معرّض، بشكل دائم، وبسبب غياب الضوابط والأصول الديمقراطية، للتقلبات والانقلابات السياسية والعسكرية، فإننا نرى هذا الدبلوماسي يعيش في قلق أو حذر، أو توتّر يعرقل عمله اليومي ويُربك تفكيره ويُجرّده من كل رغبة في الإبداع والمبادرة. 2-ووزارات الخارجية في الدول العربية ما زالت أجهزة ضعيفة أو ردئية أوعاجزة عن التصدي للمشكلات الخارجية. ولعل ضعف الدبلوماسية العربية يعود إلى ضعف هذه الوزارات، إذ لا يمكننا أن نتصوّر وجود سلك خارجي مزدهر في وزارة للخارجية متهالكة. والحقيقة أن وزارة الخارجية تُعدّ الجهاز المركزي الذي يقوم بمهمتين أساسيتين: الأولى هي تزويد الدبلوماسي بالتوجيهات والتعليمات المحددة والواضحة التي تسمح له بإنجاز مهمته. والثانية هي تلقي التقارير والبيانات منه، ودراستها بعمق، وتحليلها بتأنٍّ، واستخراج الصالح والمفيد منها، والاعتماد عليها لوضع الخطوط الرئيسية للسياسة الخارجية. وهذا العمل يتطلب وجود جهاز مركزي على مستوى رفيع من الثقافة والتنظيم. ويؤسفنا أن نلاحظ غياب هذا المستوى عن معظم وزارات الخارجية العربية، وذلك لعدة أسباب، أهمها أربعة: أ-عدم الاهتمام والعناية بأوضاع هذه الوزارات، على الرغم من أهميتها وتأثيرها على صعيد العلاقات بالخارج. وأول العيوب البارزة وضعُ هذه الوزارات في عهدة وزراء لا علاقة لهم ولا اهتمام بالعمل الدبلوماسي. فكثيراً ما يُعهد بوزارة الخارجية أو ببعض السفارات إلى أطباء أو أدباء أو أشخاص لا يدل ملفهم السياسي على أي ميل أو معرفة أو استعداد للقيام بهذه المهمة. وما يقال في عدم اختصاص الوزير أو الوكيل أو السفير يمكن أن يُقال في مؤهلات الموظفين الكبار الذين يتولون إدارة الوزارة وإعداد الملفات والدراسات فيها. ب-وجود ازدواجية في إدارة السياسة الخارجية. ونعني بذلك وجود أجهزة، أو إدارات، أو مركز قوى أخرى تتولى أمور السياسة الخارحية غلى جانب وزارات الخارجية. وهذا الوضع يُسفر عادةً عن نتائج سيئة، أبرزها: ضعف ثقة الدبلوماسي بوزارته، ومحاولته توثيق الصلة بالأجهزة الأخرى صاحبة النفوذ، وإضعاف الجهاز المركزي، أي وزارة الخارجية، المؤهلة للإشراف على العلاقات الخارجية وتوجيه التعليمات والإرشادات المقررة أو المطلوبة وتنسيق العمل والتنفيذ داخل الوزارة. ج-قصور أو تقصير في إدراك كُنه المهمة التي تتولاها وزارات الخارجية. فهذه الوزارات ليست إدارات عادية تمارس أعمالاً روتينية، وليست مراكز بريد تتلقى التقارير من المبعوثين الدبلوماسيين وتبعث إليهم بالقرارات المتخذة على أعلى المستويات. إنها، في الحقيقة والواقع، مختبرات للتحليل والتمحيص والغربلة، ومراكز للأبحاث والدراسات، ومؤسسات للتوثيق والنشر. فمن مهامها الأساسية، مثلاً، وضع ملف كامل لكل قضية. غير أن إعداد الملف يتطلب وجود وثائق مبوّبة، ومكتبة غنية، وخبراء فنيين، وباحثين اختصاصيين. ويؤسفنا أن نلاحظ غياب هذه العناصر عن معظم وزاراتنا. ثم إن وزارات الخارجية في الدول المتقدمة تقوم، من حين إلى آخر، بنشر بعض الوثائق، أو إصدار بعض المنشورات والمجلات، للدفاع عن قضايا معينة، أو لتبرير تصرفات معينة، أو لتوضيح مواقف معينة. ويؤسفنا، أيضاً، أن نلاحظ انصراف معظم وزاراتنا عن هذه الأمور كأنَّ بينها وبين القضايا الفكرية والتنظيمية عداوة مستحكمة. د-غياب الندوات الفكرية وحلقات التدريب والخبرات الشخصية عن وزاراتنا. فهذه الوزارات لا تُنظّم، إلا فيما ندر، ندوات فكرية يشارك فيها أهل الرأي السديد والخبرة الرفيعة، وتعالج كل المشكلات والقضايا التي تطرأ على الساحة الدولية. وهذه الوزارات لا تعقد، إلا نادراً أيضاً، حلقات دراسية تهدف إلى تدريب موظفيها وإطلاعهم على كل جديد ومستحدث في عالم الفكر السياسي والعلاقات الدولية. وهذه الوزارات لا تحاول، إلا قليلاً جداً، الاستفادة من خبرات بعض الشخصيات، الوطنية أو الأجنبية، الموجودة خارجها. فهناك خبرات وكفايات لا تعمل في هذه الوزارات، ولكنها مستعدة، عند الطلب، لإمدادها بزبدة الأفكار والعبر والدروس التي حصلت عيلها خلال فترة ممارستها الطويلة في مجالات السياسة والدبلوماسية، وخلال اطلاعها على تجارب الآخرين وحضارات الشعوب. وبالإمكان الاستعانة، عند الحاجة، بهذه الخبرات والدراسات لإثراء العمل الدبلوماسي وتطعيم السياسة الخارجية بلقاح جديد. 3 ــ والنقص الثالث الذي يشكو منه العمل الدبلوماسي العربي هو انعدام التنسيق بين السياسات الخارجية العربية. فلكل دولة عربية سياسة خارجية مستقلة، وأحياناً سياسة خارجية متناقضة أو متنافرة أو متناحرة مع سياسات الشقيقات الأخرى. ونظرة بسيطة إل أوضاع هذه السياسات، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تقنعنا بفقدان كل تنسيق بينها. فهناك سياسات شرّقت تارةً وغرَّبت طوراً, وهناك سياسات شرّقت وغرَّبت في آن واحد. وهناك سياسات آثرت التزام الحياد فترةً، ثم ندمت على ما فعلت وأضاعت معالم الطريق السوي. إن جميع الدول العربية تعلن رفضها لاغتصاب فلسطين من جانب الصهيونيين، وتعلن استعدادها لتحرير فلسطين، وتعلن عداءها للولايات المتحدة التي ساندت وموّلت وحمت الكيان الصهيوني، وتعلن استنكارها لانتهاك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتعلن مساندتها لحق تقرير المصير لكل شعب مضطهد، ولكن تصرفاتها المجسَّدة في سياساتها الخارجية لا تتفق مطلقاً مع مواقفها المعلنة. وبسبب التناقض الفاضح بين الأقوال والأعمال، أو التناقض الصارخ بين التضامن اللفظي والتباعد الفعلي في المواقف العربية إزاء القضايا القومية المصيرية، مُنيت الدبلوماسية العربية بهزائم نكراء لا تقل وزناً عن الهزائم العسكرية. وحاولت جامعة الدول العربية، وخصوصاً في العقد الأول من عمرها، أن تُدخل شيئاً من التنظيم على العمل العربي المشترك عن طريق إيجاد دبلوماسية مشتركة بين أعضائها، وعن طريق تشجيع اللجوء إلى تمثيل دبلوماسي عربي مشارك (لكل الأعضاء أو لمجموعات منهم) لدى الدول الأجنبية. وأصدرت لهذا الغرض، قرارات وتوصيات ركّزت فيها على محاسن التعاون الدبلوماسي في الخارج، وحسنات الدفاع الموحد عن القضايا العربية، وحجم المكاسب المادية التي يجنيها الأعضاء من جرَّاء الاقتصاد في نفقات التمثيل. ودعت، أكثر من مرة، إلى وجوب عقد اجتماعات دورية لوزراء الخارجية العرب من أجل تنسيق العمل السياسي والدبلوماسي. غير أن الجامعة أخفقت في كل مساعيها، وراحت تقلِّد الدول الأعضاء في إنشاء سفارات خاصة لها في بعض العواصم الكبرى أطلقت عليها اسم: مكاتب الجامعة، فزادت بذلك عدد البعثات الدبلوماسية العربية، وأسهمت في تشتيت الجهود وتضخيم الخلل وزيادة الأعباء المالية. والخلاصة أن الدبلوماسية سلاح. وهذا السلاح قد يكون، في بعض الظروف والمعارك، أمضى من القوة العسكرية، فهناك شعوب حققت، بواسطة الدبلوماسية الواعية المتحركة، انتصارات باهرة ضد الأعداء أو المعتدين. ولا نُجافي الواقع إن قلنا إن عدونا الصهيوني استطاع، بالمهارة أو الحنكة أو المراوغة الدبلوماسية، أن يتغلّب علينا، دبلوماسياً، في معظم المعارك التي خاضها ضدنا، أو خضناها ضده، في المحافل الدولية. إننا نرجو، من أعماقنا، أن يكون هذا الكتاب الجامعي الجامع حافزاً لنا لإعادة النظر في الأسلوب الدبلوماسي الذي انتهجناه حتى اليوم، ولتوجيه عناية خاصة إلى الدبلوماسية العربية القادرة، في حال توحيدها وتنظيمها، على خدمة قضايانا القومية والدفاع عن حقوقنا المشروعة.
تحميل الكتاب
تحميل الكتاب
======
شاركنا بتعليقك...