الخطبة في قانون الاسرة وفق القانون الجزائري
الدكتور كاملي مراد
الدكتور كاملي مراد
جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي
إنّ
أهمية الحديث عن الخطبة وبيان أحكامها شرعا وقانونا تُستمد من أهمية عقد الزواج
الّذي وصفه المولى عزّ وجلّ بالميثاق الغليظ، قال تعالى: "وأخذنا منكم ميثاقا
غليظا".
فهي
تمهيد بين يدي هذا العقد تدع مجالا للحرية والاختيار، وتجعل كلا من الخاطب
والمخطوبة يُقدم أو يُحجم عن هذا العقد دون أن يشعر بأنّ هناك التزاما على عاتقه
يُلزمه بعقده تحت طائلة المسؤولية المدنية أو الجزائية، وهي فرصة ليتأكد كل منهما من
صدق رغبته وصدق رغبة الآخر، ومن الإمكانية الواقعية لهذا الارتباط.
المطلب
الأوّل: مفهوم الخطبة شرعا وقانونا ومشروعيتها.
تتقارب
معاني الخطبة في الوضع اللغوي، وفي المفهومين الشّرعي والقانونيّ.
فهي
في اللّغة ترد بمعنى أعم وهو التماس الشّيء، كما ترد بمعنى أخص وهو الدّعوة إلى
التزويج، قال صاحب القاموس: "خطب المرأة خطبا وخِطبة...واختطبوه دَعَوْه إلى
تزويج صاحبتهم"[1].
والخِطبة
بكسر الخاء هي طلب الزواج، أما بضمّها -أي الخُطبة- فهي الكلام الذي يلقى[2].
أمّا
الخطبة شرعا فقد درج الفقهاء على تعريف الخطبة بأنّها "التماس التّزويج"[3]، ذلك أنّ خطبة الرّجل
للمرأة التماس منه لتزويجه إيّاها، وعرفها وهبة الزحيلي بقوله: "هي إظهار
الرغبة في الزواج بامرأة معينة وإعلام المرأة أو وليها بذلك"[4].
أمّا
قانونا فقد عرّفت المادّة الخامسة من قانون الأسرة الجزائريّ الخِطبة بقوله:
"الِخطبة وعد بالزواج"، وهو ما اعتمده بعض الشّارحين لقانون الأسرة
الجزائريّ، حيث عرّفها بأنّها "وعد بالتزويج"[5]، وهذا في الحقيقة ليس من
قبيل التّعريف، ولكنّه بيان للصّفة الشرعيّة والقانونيّة للخطبة.
فهي
باعتبار كونها طلبا "التماس التزويج" من المتقدّم به، وباعتبار الردّ بالقبول
"وعد بالزواج" منهما معا، وإنّه من المعلوم أنّ طلب الزّواج والتماسه
ينشئ خاطبا ومخطوبة، بينما الوعد به ينشئ واعدا وموعودا، والخاطب والمخطوبة كلاها
واعد وموعود.
فالخطبة
في الحقيقة تمر بمرحلتين، مرحلة أولى تقتصر على مجرد الطلب والالتماس، ومرحلة
ثانية يحدث فيها القبول والتراكن، وهي ما يمكن تعريفه بالوعد.
وقد
قصد المشرع تعريف الخِطبة باعتبارها وعدا، لأن مجرد الالتماس والطلب لا تنتظمه
أحكام القانون، بينما حينما يتحول إلى وعد بالزواج فينتظمه من حيث ما يمكن أن
ينجرّ عنه من آثار قد تلحق أحد الطرفين أو كلاهما.
وتستمد
الخطبة مشروعيتها في الشريعة من نصوص كثيرة أهمها قوله تعالى: "ولا جناح
عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء" (البقرة، 234)، فإن رفع التأثيم يدلّ
على المشروعيّة عموما، وقوله-صلى الله عليه وسلم-: "إذا خطب إليكم من ترضون
دينه وخلقه فزوجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم" (رواه
الترمذي).
ولهذا
فقد اعتبرها الفقهاء مستحبة قبل انعقاد الزواج، لأنها أحرى لدوام العشرة، وحتى
تكون مهلة ليتأكد كل منهما من صدق رغبته وصدق رغبة الآخر، ومن الإمكانية الواقعية
لهذا الارتباط.
المطلب
الثاني: طبيعة الخطبة شرعا وقانونا.
أوّلا:
الطبيعة الشرعيّة للخطبة.
يتّفق
فقهاء الشريعة على أن الخِطبة ليس لها صبغة عقدية وهذا بناء على أنّ الشارع لم
يرتّب عليها أيّ أثر من أثار عقد الزواج، بل فصل بينهما فصل تاما من حيث الحقيقة
الشرعيّة.
من
أدلة ذلك :
·
أنّه لا يثبت بها حقّ من الحقوق الزوجية
ولا يثبت بها نسب لأنّ ذلك لا يكون إلاّ بالعقد.
·
أنّ ما أبيح النظر إليه من الخطبة ورد
استثناء من أصل تحريم النظر للأجنبية لقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة
حينما جاءه فذكر له أنّه خطب امرأة: "انظر إليها فإنّه أحرى أن يُؤدم
بينكما"[6]
قال
أكثر أهل العلم أنّه يجوز النظر إلى الوجه والكفين فقط.[7] وهذا يدلّ على أنّ الخِطبة
لا ترتقي إلى مرتبة عقد الزواج.
إلاّ
أنّه ومما سبق ذكره يُلاحظ أنّ الشريعة منحت الخِطبة خصوصية أخرجتها من العموم.
فهي لا ترتقي إلى مرتبة عقد الزواج ولكن ترتفع عن العموم برفعها بعض الحرج قصد
تحقيق المقصد الشرعي المترتب على تمام الألفة بالعقد.
ثانيا:
الطبيعة الفقهيّة للخطبة في الفقه القانوني.
اختلف
فقهاء القانون حول الطبيعة القانونية للخطبة فمنهم من أضفى عليها الصبغة العقديّة،
ومنهم من رأى أنّ الخِطبة لا ترتقي إلى مرتبة العقد، فيرى أصحاب الاتّجاه الأوّل[8] أنّها عقد بناء على سببين
هما:
1. حقّ
الخاطبين في المطالبة بالزواج والتعويض في حال العدول.
2. تتضمّن
الخطبة التعبير عن إرادتين متطابقتين – إيجاب وقبول-
يشبّه
الفقيه "جوسيران" JOSSERAND
عقد الوعد بالزواج بعقد العمل غير المحدّد المدة ، ففسخ هذا العقد بالإرادة
المنفردة لرب العمل لا يحرك المسؤولية العقدية بالرغم من ذلك يمكن في عقد العمل
غير المحدّد أن يكيّف فسخه بالإرادة المنفردة لرب العمل على أساس أنه تعسّف في
استعمال الحق، ويقول: "الخطبة تشكّل عقدا صحيحا يمكن نقضه بالإرادة المنفردة
لأحد الأطراف ، لكن هناك تعسّف في استعمال الحقّ إذا تم فسخه بدون سبب مشروع يؤدي
إلى تحريك مسؤولية المتسبّب في فسخه"[9].
يرى
أصحاب الاتّجاه الثاني أنّ الخِطبة لا ترتقي إلى مرتبة العقد لسببين:
1. كفالة
الحريّة الشخصيّة للخاطبين في الاختيار والرضا.
2. كون
الخِطبة مجرّد فترة اختبار لكل من الخطيبين مجرّدة من كلّ تعهّد نهائي.
يقول
الفقيه "لويسل" LOYCEL:
"إذا كان من حقّ الخطيبة التعّلق أو ترك خطيبها فإنّ أيّ خطيب له الحقّ في
عدم الزواج"[10]
ثالثا:
الطبيعة القانونية للخطبة.
لا
تتمتع الخطبة بأية قوة إلزامية للطرفين ولو طال أمدها لأنّ القانون أقرّ لها صفتها
الشرعية وهي كونها مجرد وعد بالزواج مع أحقية كل طرف في العدول دون حاجة إلى بيان
مبرر له . بحيث لا يتحمل لمجرد عدوله أي تبعة قانونية، إذ تنص المادة الخامسة من
قانون الأسرة الجزائري بأن "الخطبة وعد بالزواج يجوز للطرفين العدول عن
الخطبة"
وعلى
هذا فإن الخطبة "لا تتمتع بأية قوة إلزامية بالنسبة للطرفين ولو طال أمد
تراكنها أو صبت في قالب رسمي شكلي، ذلك
لأنّ القانون لم يرقَ بها إلى مرتبة العقد. بل أقرّ لها صفتها الشرعية وهي مجرد
وعد بالزواج من الطرفين مع أحقية العدول والتراجع عنها ورفض إبرام عقد الزواج"[11].
وقد
أكّد المشرّع في المادّة (06) أنّه لا يغيّر من الطبيعة القانونيّة للخطبة أن
تقترن بما يعرف بالفاتحة، وهي ما يُقرأ للتبرّك بعد وقوع الخطبة، إلاّ أنّه إذا
توافر ركن الرضا وشروط الزّواج المنصوص عليها في المادّة (09) مكرّر فإنّه يُعتبر عقد
زواج لا مجرّد خطبة، فنصّت المادّة (06) على "إنّ اقتران الفاتحة بالخطبة لا
يعدّ زواجا، غير أنّ اقتران الفاتحة بالخطبة بمجلس العقد يعتبر زواجا متى توافر
ركن الرضا وشروط الزواج المنصوص عليها في المادّة (09) مكرر من هذا القانون"
المطلب
الثّالث: أثار العدول عن الخِطبة:
لا
تتمتع الخطبة بأية قوّة إلزامية بالنسبة للطرفين ، فهي مجرد وعد بالزواج من
الطرفين مع أحقية كل طرف في العدول[12]دون حاجة إلى بيان مبرر
العدول. بحيث لا يتحمل لمجرد عدوله أية تبعة قانونية بناء على القاعدة "الجواز
الشرعي ينافي الضمان"
إلاّ أنّه قد يقترن
مع العدول أمور تحتاج إلى معالجة، وفقد وخسارة تحتاجان إلى جبر بناء على المسألة
المعنون لها بـ " الوعد الّذي أدخل الموعود في التزام"
وتظهر أثار العدول عن الخِطبة في أمور ثلاثة هي :
وتظهر أثار العدول عن الخِطبة في أمور ثلاثة هي :
أولا:
الأضرار المادية والمعنويّة
[13]:
شرعا
:
إذا ترتب عن العدول عن الخِطبة ضرر لأحد الخطيبين فإنّه يتنازع مسألة إمكانية
الحكم بالتعويض وجهان:
الوجه
الأوّل: أنّ جواز العدول عن الخطبة شرعا ينافي الحكم بالتعويض للقاعدة
"الجواز ينافي الضمان".
الوجه
الثاني: أنّ الضرر اللاحق بسبب العدول في حال سوء استعمال الحق فيه داخل في
القاعدة الشرعيّة "لا ضرر و لا ضرار" لأنه تجاوز لحدود الجواز.
وما
تجدر الإشارة إليه ابتداء أنّ نصوص الفقهاء في غير الهدايا نادر جدا نظرا لاستقامة
أحوال الناس في زمن كتابة هذه النصوص وقلّة أقضيتهم في هذا الشأن أو انعدامها [14].
وبناء
عليه فإنّ العدول في ذاته لا يترتب عليه تعويض، واستعمال الحق لا يترتب عليه تعويض
مطلقا [15].
إلاّ
أنّه إذا كان العدول قد رافقته ظروف أخرى مستقلّة، وكان من شأنها أن تُحدث خطأ سبب
ضررا للطرف الآخر فسبب المسؤولية هنا يتمثّل في تلك الظروف الطارئة أو الوقائع
السابقة أو اللاحقة لزمن العدول عن الخطبة نتج عنه ضرر مباشر للطرف الآخر، بحيث
يمكن وصفها بأنها تغرير به نشأ عنه ضرر استنادا إلى القاعدة "التغرير يوجب
الضمان".
ولقد
انقسم الفقه الإسلامي المعاصر إلى ثلاثة أراء:
الرأي
الأوّل: يرى أنه لا تعويض عن العدول لأنّ الخطبة وعد وليست عقدا، ولا إلزام في
الوعد، والعادل إنّما يمارس حقا من الحقوق المشروعة، ولأنّه من القواعد المقرّرة
في الفقه الإسلاميّ أنّ "الجواز ينافي الضّمان" ولأنّ الحكم بالتّعويض
لا يكون إلاّ بعد بيان الضّرر النّاتج عن العدول، وقد يكون ممّا يجب ستره كما أمرت
الشّريعة، ولأنّ العدول قد يكون لأسباب نفسيّة. ممّن رأى ذلك الشيخ محمّد بخيت
المطيعي (مفتي الديار المصريّة سابقا) وعمر سليمان الأشقر[16].
الرأي
الثّاني: يرى أنّ العدول عن الخطبة يستوجب التعويض للطرف الآخر عن الأضرار الواقعة
عليه سواء أكانت ماديّة أم معنويّة، وهو ما ذهب إليه شيخ الأزهر محمّد شلتوت[17]، وفتحي الدريني[18].
وأساس
هذا الرأي هو حديث النبيّ –صلى الله عليه وسلّم-: "لا ضرر ولا ضرار"،
ولأنّ الضرر يُزال، وطريقة إزالته التّعويض[19].
الرأي
الثالث: يرى أنّ العدول يستوجب تعويضا إذا ترتب عنه ضرر مادي فقط، أما الضّرر
المعنويّ فلا يُعوض، ويمثله الشيخ محمد أبو زهرة (رحمه الله).
ويُشترط
للتّعويض في حالة وجود الضّرر بسبب العدول شرطان[20]:
الشّرط
الأوّل: أن لا يكون لمن عدل مبرر ينزع عن أفعاله صفة السلوك الخاطئ، والمعتبر
أساسا للتّعويض.
الشرط
الثّاني: أن يكون للعدول يد في إحداث الضّرر الحاصل للطرف الآخر، كأن يطلب الخاطب
من المخطوبة الاستقالة من العمل ليُتم العقد ثم يعدل عنها.
قانونا
:
نصّت المادة الخامسة من قانون الأسرة الجزائري على أنّه "إذا ترتب عن العدول
عن الخطبة ضرر مادي أو معنوي لأحد الطرفين جاز الحكم له بالتعويض"
إلا
أنه يشترط إعمالا لقواعد الشريعة ولقواعد المسؤولية التقصيرية أن يكون للعادل دخل
في الضرر الّذي لحق الآخر بسبب عدوله.
والملاحظ
أن المشرع الجزائري قد أخفق في صياغة المادة الخامسة الفقرة الثانية من قانون
الأسرة إذ أنّه أجاز الحكم بالتعويض ولم يوجبه، رغم أنّه من المعلوم أنّ المتسبب
في الضرر يُلزم بالتعويض (المادة 124 من القانون المدني الجزائري)
وقد
قضت المحكمة العليا بأنه "من المقرر قانونا أنه يتوجب على المرأة المخطوبة
عند عدولها عن إتمام الزواج أن ترد ما لم يستهلك من هدايا وغيرها...ولما ثبت من
قضية الحال أن الطاعنة هي التي عدلت عن إتمام الزواج بدون مبرر شرعي أو قانوني
فإنه لا يمكن والحالة هذه تحيل المطعون ضده الخسائر والأضرار المترتبة عن
ذلك" (أحوال شخصية 13/07/1993 م.ق.ع 01/1995 ص128)
وقد
استقر لدى مختلف الأنظمة القضائية بأن الأفعال التي يمكن أن تقترن بالعدول وتلحق
ضررا بأحد الخطيبين هي التي يمكن جعلها أساسا لطلب التعويض (أي على أساس المسؤولية
التقصيرية عن الفعل الضار).
وقد
حددت بعض الأنظمة القضائية أسبابا مشروعة للعدول لا يترتب عنها حق في المطالبة
بالتعويض ولو مع وقوع ضرر للطرف الآخر، فقد ذهب الفقه والقضاء الفرنسي إلى أن عدم
تنفيذ الوعد بالزواج إذا كان مؤسسا على أسباب مشروعة تتمثل في حادث مفاجئ وجسيم
يمس شرف الأشخاص ويؤثر على الحياة المستقبلية للأطراف فإنه لا يمكن للمتضررين طلب
التعويض، فمثلا في فرنسا لا يستطيع خاطب فتاة أن يطلب منها تعويضا عن عدولها عن
الخطبة إذا كان سبب عدولها هو رفض أبيها وأمها منح الترخيص أو الإذن لها بالزواج
إذا كانت قاصرا. ومن المهم أخيرا الإشارة إلى أن الدعاوى المتعلقة بالخطبة تكون من
نظر قسم شؤون الأسرة وفق ما نصت عليه المادة 423 من قانون الإجراءات المدنية
والإدارية 08-09 المؤرخ في 25-02-2008، كما أن الاختصاص الإقليمي في مسائل العدول
عن الخطبة يعود لمكان وجود موطن المدعى عليه وفق ما تنص عليه المادة 426
"تكون المحكمة مختصة إقليميا في موضوع العدول عن الخطبة بمكان وجود موطن
المدعى عليه".
ثانيا:
الهدايا.
شرعا: لم يتفق فقهاء
الشريعة في حكم استرداد الخاطب لهداياه للمخطوبة في حال العدول.
فرأى
الشافعية والحنابلة أنّه ليس للخاطب الرجوع في شيء مما أهداه سواء أكانت موجودة أم
هالكة، لأنّ للهدية حكم الهبة، ولا يجوز عندهم للواهب أن يرجع في هبته بعد قبضها
إلاّ الوالد فيما أعطى ولده.
وقال
الحنفية[21]: هدايا الخِطبة هبة،
وللواهب أن يرجع في هبته إلاّ إذا وجد مانع من موانع الرجوع بالهبة كهلاك الشيء أو
استهلاكه، فإذا كان ما أهداه الخاطب قائما فإنّ له أن يستردّه وإن كان قد هلك أو
استُهلك أو طرأ عليه تغيير فلا يحق للخاطب الاسترداد.
وقال
المالكيّة[22]:
إذا عدل الخاطب فلا يرجع بشيء ولو كان موجودا، وإذا عدلت المخطوبة فللخاطب أن
يستردّ الهدايا سواء أكانت قائمة بردها أو استهلكت برد قيمتها، وهذا حتى لا يجمع
الخاطب بين ألم العدول عنه وألم ضياع أمواله.
قانونا: أخذ المشرع
الجزائري بتفصيل المالكية في مسألة العدول[23]، إلاّ أنّه عدل إلى رأي
الأحناف في عدم أحقية الخاطب في استرداد هداياه التي تم استهلاكها وهذا في نصّت
المادة (05) في فقرتها الثالثة على أنّه "لا يسترد الخاطب من المخطوبة شيئا مما أهداها إن كان العدول منه وعليه أن
يرد للمخطوبة ما لم يُستهلك ممّا أهدته له أو قيمته"، كما نصّت في فقرتها
الرابعة على أنّه: "وإن كان العدول من المخطوبة فعليها أن تردّ للخاطب ما لم
يُستهلك من هدايا أو قيمته"
ومن
المهمّ جدا أن نسجّل جملة ملاحظات حول منهج المشرع في التعامل مع هدايا الخطبة:
·
سكت المشرع عن هدايا المخطوبة للخاطب
وحكم استردادها في حالة كون العدول منها، والأصل أن تُقاس هذه على الأخرى في الحكم
القانوني للاشتراك في العلة وهي "أنّ الإهداء كان لغاية وهي الزواج"،
فيكون الحكم بأن لا تستردّ شيئا ممّا أهدته له إن كان العدول منها".
·
لم يتعرّض المشرع الجزائري لحكم الهدايا
التي يتقدّم بها أهل الخاطب للمخطوبة، ولا وما يتقدم به أهل المخطوبة للخاطب ،
والصحيح أن تُطبّق بشأنها أحكام الهبة[24].
وقد
نصّت المادة (1088) من القانون المدنيّ الفرنسيّ على
أنّ: "كل هبة تمت لأجل الزّواج تكون باطلة إذا لم يتمّ الزّواج"
Toute
donation faite en faveur du mariage sera caduque si le mariage ne se suit pas
وبالتّالي
فالمادّة لم تحدّد الجهة الّتي قدّمت الهدية، ولا جهة العدول، وإنّما بيّنت أنّ
الهدية تكون باطلة ويجب أن يعود الأطراف إلى الحالة الابتدائيّة إذا لم يتمّ
الزّواج.
·
الملاحظ على نصوص فقهاء الشريعة، وكذا نص المادة
الخامسة من قانون الأسرة الجزائري أنّ تحميل تبعة العدول فيما يتعلق برد الهدايا
من عدمه كان بمجرد النّظر إلى القائم بفعل العدول دون النّظر إلى سبب العدول، ولا
يبدو معقولا الاكتفاء بالنّظر إلى من أعلن العدول عن الخطبة دون الأخذ بعين
الحسبان من تسبب في هذا العدول، وهو مقتضى قواعد المسؤولية التقصيريّة، إذ أنّ
المادة (124) من القانون المدنيّ الجزائريّ تنصّ على إلزام المتسبّب في إحداث
الضرر بالتعويض" كلّ فعل يرتكبه الشخص بخطئه، ويسبب ضررا للغير يُلزم من كان
سببا في حدوثه بالتعويض"، وذلك أنّه لا يخفى أنه قد يكون أحد الخطيبين عدل عن
الخطبة وتسبب الآخر في العدول، لأجل ذلك اقترح الأستاذ محمد محده –رحمه الله- أن
يُجرى على نص المادة تعديل على النّحو التّالي: "لا يسترد الخاطب شيئا ممّا
أهداه إن كان سبب العدول منه، وإن كان سبب العدول من المخطوبة فعليها رد ما لم
يستهلك"[25].
· ما يفهم من نصوص فقهاء
الحنفية، وكذا المادّة الخامسة من قانون الأسرة الجزائريّ أنّ العبرة في ردّ
الهدية وعدمه في حال كون العدول من المخطوبة هو استهلاكها من عدمه دون النّظر إلى طبيعتها من حيث هي
قابلة للاستهلاك أم لا. وعلى هذا الأساس فإنّها لو ادّعت المخطوبة هلاك الهدية أو
استهلاكها ببيعها واستهلاك ثمنها لم يصح للخاطب المطالبة بها أو بقيمتها، وهو نفس
ما يجري في حال كون العدول من الخاطب فيما يتعلق بهدايا المخطوبة له [26].
وهذا
المعنى المتبادر غير صحيح، لأنّه لا يمكن
ادّعاء استهلاك ما هو غير موضوع أساسا للاستهلاك كالحليّ، ولهذا فكان على المشرّع
أن يعبّر عن ذلك بقوله: "لا يستردّ الخاطب من المخطوبة شيئا مما أهداها إن
كان العدول منه وعليه أن يرد لها ما أهدته له أو قيمته إلا ما ستُهلك وكان قابلا
للاستهلاك"
ثالثا:
ما يدفع للمرأة على اعتبار أنّه سيُتّفق على كونه مهرا في العقد.
شرعا: لا يجب المهر عند
الفقهاء اتّفاقا بغير عقد أو دخول [27]، ولهذا فلا يجب الصداق ولا
يتقرّر بمجرّد الخِطبة، وأنّه في حال الهلاك أو الاستهلاك يرجع بقيمته إن كان
قيميا وبمثله إن كان مثليا سواء أكان العدول من الخاطب أو من المخطوبة.
فهو
قبل العدول مجرّد دين ثابت في ذمة المخطوبة يبرأ بالدين الثابت بقيمة المهر في ذمة
الزوج عند إبرام العقد، فتحدث المقاصّة الرّضائية في الدّيون عندها.
ويتصوّر
هذا الحديث في حال تعجيل المهر قبل العقد وأثناء الخطبة رغبة في أن تقوم المرأة
بتجهيز نفسها، خاصّة وأنّ كثيرا من المناطق في الجزائر تفضّل أن لا ينفصل العقد عن
الدخول احتياطا لحالات الطلاق الواقع بسبب طول المدة بين الأمرين وما يجلبه من
عواقب سيئة ونزاع.
ويُطرح
الإشكال في حال قيام المرأة باستعمال المهر في تهيئة جهازها ثم يقع العدول من طرف
الخاطب.
والأمر
هنا يتنازعه وجهان:
الوجه
الأوّل: حقّ الخاطب في استرداد المهر، لأنّه لا يحقّ للمرأة إلاّ بعقد.
الوجه
الثّاني: انتفاء مسؤوليّة المخطوبة فيما طرأ على المهر من التبديل (فراش، حلي،
لباس).
من
أجل ذلك فإنّ بعض المشتغلين بعلوم الشريعة يذهبون إلى أنّه يجوز للمخطوبة أن تعطيه
المهر في هذه الحال على الوضع الّذي آل إليه، "وذلك بأن تعطيه بدل المهر بعض
ما اشترت باحتساب قيمته يوم الشّراء"[28].
وينجر
عن ذلك القول بأنّه إذا أصبحت المخطوبة مدينة بتصرفها في تجهيز نفسها وحدث العدول
أصبح الخاطب ملتزما بدلها بأداء ذلك الحق، وذلك أنّ المرأة لا مبرّر لإجبارها على
تملّك هذه الأشياء حيث كانت الخطبة دافعها إلى هذا التصرّف[29].
والظّاهر
أنّ هذا الحل الّذي اقترحه بعضهم متناسبا مع الخصوصية التي منحتها الشّريعة للخطبة
وما قرّرته من أحكام استثناء من القواعد الأصلية التي سبقت الإشارة إليها.
قانونا:
لم
يتعرّض قانون الأسرة الجزائريّ لما يُدفع للمرأة من مال على اعتبار أنّه سيُتّفق
على اعتباره مهرا في العقد لا صراحة ولا ضمنا بناء على أنّه يثبت كما نصّت عليه
المادة السادسة عشر بالدخول أو بوفاة الزّوج، فقد نصّت على أنّه "تستحق
الزوجة الصّداق كاملا بالدخول أو بوفاة الزّوج وتستحق نصفه عند الطلاق قبل الدّخول".
فوائد
شرعية في محور الخطبة:
من المسائل الفقهية المهمة في موضوع الخطبة أمور.
الأمر
الأول: إباحة الخِطبة تعريضا لمن لم تستوف العدّة من المتوفى لتعلّق حقّه بها
لقوله تعالى:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خِطبة النساء" (البقرة
234) رغم تحريم الزواج من المعتدة حتى تستوفي عدّتها لقوله تعالى: "ولا تعزموا
عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله" (البقرة 235).
قال
ابن العربي :" حرّم الله تعالى النكاح في العدّة ، وأوجب التربّص على الزوجة
، وقد علم سبحانه أنّ الخلق لا يستطيعون الصبر عن ذكر النكاح والتكلّم فيه فأذن
بالتصريح ذلك مع جميع الخلق ، وأذن في ذكر ذلك بالتعريض مع العاقد له ، وهو المرأة
أو الولي ، وهو في المرأة آكد"[30] .
الأمر
الثاني: النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه. لحديث ابن عمر –رضي الله عنهما- قال:
قال –صلى الله عليه وسلم-: "لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة
أخيه إلاّ أن يأذن له"[31].
وتحريمها
محل إجماع إذا تمت الموافقة على الخاطب الأول لما في ذلك من التعدي على حق الغير
وتوريث النزاع، أما إذا لم تتم الموافقة فجمهور الفقهاء على إباحتها وكرهها
الحنفية.
الأمر
الثالث: لا يجوز خطبة المعتدة من طلاق رجعي لقيام الزوجية الحكمية إجماعا، وإن كان
الطلاق بائنا بينونة صغرى جاز تعريضا عند الجمهور لانقطاع الزوجية، وتحرم عند
الحنفية لإمكانية تراجعهما بعقد جديد، أما إن كان الطلاق بائنا بينونة كبرى فجاز
تعريضا عند الجمهور لذات السبب، وتحرم عند الحنفية خوفا من أن يظن أن الخاطب كان
سببا في انتهاء الزوجية من الأول منعا للنزاع.
أما
في حالة الوفاة فتجوز الخطبة تعريضا للآية السابقة. فجازت لانتهاء الزوجية، وشُرعت
تعريضا لحرمة المتوفي[32].
[1] -الفيروزآبادي مجد
الدّين محمد بن يعقوب. القاموس المحيط. دار الفكر، بيروت، لبنان، ط 1403هـ، 1983م،
ج1ص63.
[2] - ابن منظور محمّد بن
مكرم الإفريقي المصريّ (ت711هـ)، لسان العرب، تحقيق المخزومي مهدي والسامرائي
إبراهيم، ط1، دار صادر، بيروت، لبنان، ج2ص1194.
[3] - الخرشي محمد بن عبد
الله بن علي. الخرشي على مختصر خليل. دار الفكر، بيروت، لبنان، د،ط. ج2ص167.
[4] - الفقه الإسلامي
وأدلته. دار الفكر، دمشق، ط2، 1405هـ-1985م. ج7ص10.
[5] - بلحاج العربي .
الوجيز في شح قانون الأسرة الجزائري. ديوان المطبوعات الجامعية،سنة 1994م .ص51.
[6] - رواه الخمسة إلاّ
أبو داود. انظر : نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار . الشوكاني محمد بن علي بن محمد .
دار الجيل –بيروت- ج6ص239.
[7] - نفسه ، ص240.
[8]-
من أنصار هذا الاتّجاه الفقيه الفرنسي "جوسيران" JOSSERAND
وأيّده في ذلك "هانري" henri
و"ليون" leon
و"جون مازو" jean mazeaud.
(انظر:
Leçons de droit civil.3vol. les personnes .6éd.
montchreftien. h.l.j/ mazeaud. p78.
[9] -78 lecons de
droit civil. ibid. p .
[11] - محده محمد . الأحكام
الأساسية في الأحوال الشخصية. دار الشهاب –باتنة- .ج1ص28.
[12] - معظم تقنينات
الأحوال الشخصية في البلاد العربية تُطلق لفظ العدول على التراجع عن مشروع الزواج
، سواء من جهة الخاطب أو المخطوبة ويعبّر
البعض عن التراجع من جهة الخاطب بالعدول ومن جهة المخطوبة بالرد – انظر كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية على مذهب
الإمام أبي حنيفة . تحقيق لجنة إحياء التراث العربي .دار الآفاق الجديدة –بيروت-
ط2 1980.
[13] - مثال هذه الأضرار أن
يطلب الخاطب من مخطوبته ترك دراستها أو الاستقالة من وظيفتها أو قد يكون في فسخ
الخطبة تفويت لخطاب آخرين بطول مدّة الخطبة ، ثم وقوع العدول .
[14] - تقية عبد الفتاح.
مباحث في قانون الأسرة الجزائري . ص90 .
[15] - بدران أبو العينين.
مرجع سابق . ج1 ص34 .
[16] - أحكام الزّواج في
ضوء الكتاب والسنّة. دار النّفائس، الأردن،ص78.
[20] - الزحيلي وهبه .
الفقه الإسلامي وأدلته . دار الفكر –دمشق- ج7 ص28 .
[21] - ابن عابدين محمد
أمين. حاشية رد المحتار على الدر المختار . دار الفكر –بيروت- . ط سنة
1399هـ-1979م . ج2ص599
[22] - الشرح الصغير للدردير
بحاشية الصاوي . دار المعارف –مصر- ج2 ص456.
[23] - سار المشرع الجزائري
حذو المشرع المغربي والتونسي,بينما نص القانون السوري للأحوال الشخصية في م4/3 على
أنه تجري على الهدايا أحكام الهبة ، وكذا نص القانون اللبناني في المادة2/2 على
" أما الأشياء التي أعطاها الطرفان لبعضهما بعضا هدية فتجري عليها أحكام
الهبة بحقّها".
[24] - سعد عبد العزيز،
مرجع سابق، ص87.
[25] - الأحكام الأساسية ،
مرجع سابق . ص35.
[26] - فارق الأستاذ عبد
العزيز سعد بين الحالتين ، فرأى أنّه " إذا كان الرجوع عن الخِطبة قد حصل من
المخطوبة نفسها فإنّه يجب عليها أن تردّ كل ما أخذته من هدايا تكون ما تزال قائمة
عينا لم تُستهلك، سواء كانت قابلة للاستهلاك مثل المأكولات أو بعض أنواع الملبوسات
أو غير قابلة للاستهلاك " بينما في حال كون الرجوع من الخاطب فإنّه لا يجوز
للعروس أن تُطالب بردّ الهدايا التي كانت قد قدمتها إلى عريسها إذا كانت مما
يُستهلك واستُهلك فعلا سواء وقع التراجع منها أو منه" انظر : الزواج والطلاق
. مرجع سابق . ص86-87.
[27] - ابن رشد محمد بن
أحمد بن محمد بن أحمد. بداية المجتهد ونهاية المقتصد. ج2 ص22.
[28] - بدران أبو العينين بدران.الفقه المقارن للأحوال
الشخصية بين المذاهب الأربعة. دار النهضة العربية .دط . ج1ص32
[29] - محده محمد . مرجع
سابق . ص33.
[30] - ابن العربي أبو بكر محمد بن عبد الله . أحكام
القرآن . تحقيق البجاوي علي محمد . دار المعرفة –بيروت- د ط . ج1 ص212.
شاركنا بتعليقك...