يعتبر حق التعليق على الأوامر والأحكام والقرارات القضائية هو الأصل من القاعدة، ويؤطره من الناحية القانونية تعدد درجات التقاضي ونظام القضاء من الفردي إلى الجماعي، بزيادة في عدد القضاة المكونين لتركيبة هيئات الحكم، مع توالي الدرجات من الأصغر إلى الأكبر، لأن المشرع وضع فرضية قانونية شبه قاعدة مفادها احتمال وقوع القاضي في الخطأ، أو لتأكيد وجهة نظره، بمعنى أن الشك المثار حول صواب حكم القاضي وحول مدى مطابقته للقانون قائم قانونا.
وصناعة الأحكام مهنة مرتبطة بحق التعليق، الذي يتخذ مصادر مختلفة وأشكالا متعددة، والمعتاد منها هو حق الطعون المحددة في نوعها وزمنها وشكلها وأطرافها وفضائها بمقتضى القوانين الإجرائية الاستئناف، النقض، التعرض، التعرض غير الخارج عن الخصومة، إعادة النظر، المراجعة، الإحالة). إذ يعتبر الطعن القضائي في حد ذاته تعليقا على الحكم لأنه يناقش الحكم.
ولأن التعليق حر فإن المشرع اكتفى بتحديد إجراءاته الشكلية فقط دون أن يضع مدى ولا حدودا لجوهر وموضوع الطعن والتعليق، لأن الأطراف بعد الحكم تسترجع حق مناقشته والتعليق عليه بالوسائل والموجبات التي تقدّر بأنها صالحة ومفيدة لها. فهو حق تكفله قواعد قانونية، سواء في المسطرة المدنية أو المسطرة الجنائية أو قانون المحاماة.
غير أن التعليقات التي يرفضها القضاة وينفرون منها هي تلك التي تثار خارج فضاءات المحاكم وخارج محاريب العدالة، والتي يدلي بها غير رجال القانون، خاصة تلك المناقشات التي تكون وسائل الإعلام ورجال السياسة مصدرها، وذلك نابع من صراع سيبقى أبديا، فالإعلام والقضاء سلطتان تتنافسان حول من تكون له الرقابة العليا، وفوق السلط، بينما السياسة جزء من السلطة التي تصنع عملا أو تنتج أدوات عمل القاضي أو جزءا من تلك التي تعينه.
ومهما يكن من أمر، فإن مبدأ خضوع الجميع، أفرادا وجماعات ومؤسسات، للقانون في مبدأ الشرعية لا ينفي حق الجميع، بما في ذلك سلطة الإعلام والساسة والعامة، في التعليق على الأحكام القضائية، فهؤلاء لا يختلفون في شيء عن حق ذوي الصفة في الغاية والفلسفة من إقرار الحق في التعليق مادامت نتيجة الحكم نسبية وليست مطلقة، والحقيقة القضائية مرتبطة فقط بوسائل الإثبات ومستوى فهم القضاة وضميرهم المهني وأخلاقهم، فتأثر القاضي من الداخل أكبر من محاولات التأثير الخارجية.
والحقيقة القضائية، التي تعتبر خلاصة عمل القاضي، والتي يمكن وصفها بـ"الاجتهاد"، حسب التعبير القضائي، ليست مستقرة، بل متذبذبة، فمحكمة النقض حاليا والمجلس الأعلى سابقا لم يوحدا العمل القضائي، بل ساهما في عكس ذلك وتشتيته وتنوعه وتعدده واختلافه، فكم من قضية واحدة عرفت اجتهادات متباينة ومتناقضة، بشكل تجعل القاضي والمحامي والمتقاضي في حيرة من أمرهم.
وإذا كان حق التعليق يستند إلى القانون، ومرتبط بالحق في التعبير، كحق من حقوق الإنسان، ومحمي دستوريا، بل هو ضروري لممارسة نوع من الرقابة العامة على عمل القاضي للرقي بعمله وتطويره ومناعته، فإن أي محاولة لخرق وانتهاك أو تحجيم حق التعليق على القرارات القضائية باستعمال القانون الجنائي، خاصة المواد المتعلقة بتحقير القرارات القضائية الواردة في المادتين263 و266 من القانون الجنائي، هي استعمال للنص في غير موضعه لأن التعليق ينصب على عمل القاضي وليس على شخصه.
أما المادة القانونية فهي متجهة إلى حماية شخص ورجال القضاء في شرفهم وشعورهم والاحترام الواجب لسلطتهم فقط، ودون أن تمتد هذه الحماية إلى أعمالهم، فالمشرع لم ينزه عمل القضاء من الأصل، ومنذ البداية، ووفقا لما أشرنا إليه أعلاه، لادعاء حصانة هذه الأعمال بمادة قانونية جنائية، كما أن القانون جعل الأحكام والقرارات والأوامر القضائية عرضة للإلغاء والبطلان والتصحيح.
وفي مقابل عدم توفير المشرع الحماية والحصانة لقرارات القضاء، أو أعمال القضاة، فإن المشرع نفسه وضع حماية دستورية للحق في التعبير، وهو حق من حقوق الإنسان. كما أن الحماية الجنائية الوحيدة التي وضعها المشرع للمقرر القضائي إنما في مواجهة طرفها الأساسي الذي تنفذ عليه فقط، وبمناسبة عملية التنفيذ حصرا، لأنه ملزم بتنفيذها، دون أن يمس تنفيذه لها بحقه في التعليق عليها.
شاركنا بتعليقك...