بحث حول المقارنة بين النظريات العقدية المفسرة لنشأة الدولة
مقدمة:
تعتبر الدولة واحدة من أعقد الظواهر الاجتماعية ، إذ من جهة يرجع أصل نشأتها إلى الحضارات القديمة، ومن جهة أخرى فهي خضعت لتغيرات وتطورات عديدة على مر العصور، مما يصعب معها تتبعها ومعرفة كيفية ظهورها ولا العوامل التي ساعدت في ذلك من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية وغيرها.
وعلى أساس أن الدولة ظاهرة اجتماعية وسياسية وقانونية، فإنها تطرح على غرار أغلب الظواهر الاجتماعية عدة تساؤلات وإشكالات لدى فقهاء القانون الدستوري، من حيث أصلها و تاريخ نشأتها
وإزالة للبس الذي قد يكتنفها من جراء هذه الناحية ، جاءت نظريات عديدة تحاول أن تدلي بدلوها وتقدم لنا طرحا عن كيفية نشأة أحد أقدم الكيانات السياسية، لكن هذه النظريات اختلفت في تحديد العوامل التي ساهمت في تأسيس الدولة، فنجد تلك التي تعتمد على العامل الديني وتلك التي تستند إلى القوة والغلبة ، كما أن بعضها استندت إلى العقد وبعضها الأخر إلى التطور.
و سنتناول في بحثنا هذا النظريات التي استندت إلى العقد في تفسير نشأة الدولة من خلا ل محاولة الإجابة على الإشكالية التالية : ماهي أوجه الشبه و الإختلاف بين النظريات العقدية (الاتفاقية) المفسرة لنشأة الدولة ؟
وقد قمنا بتقسيم موضوعنا هذا إلى مبحثين الأول يتناول النظريات العقدية عند الأوروبيين ، و خصصنا المبحث الثاني للنظرية العقدية عند المسلمين .
المبحث الأول: النظريات العقدية عند الأوروبيين(الغربيين)
أستخدمت فكرة العقد كأساس لنشأة الدولة منذ زمن بعيد وقد استخدمها الكثير من رجال الفكر والدين
كوسيلة لتدعيم آرائهم واتجاهاتهم السياسية في محاربة السلطات المطلقة للملوك في القرن ال 16 م. غير أن هذه النظرية لم تتضح لها المعالم بصورة واضحة ولم تحتل هذه المكانة الخاصة في الفكر السياسي إلا في القرنيين 16 و 17 م على يد من المفكرين في أوربا وأبرزهم الانجليزيان هوبز ولوك ثم في القرن 18م على يد الفرنسي جون جاك روسو .
المطلب الأول: النظريات العقدية في ظل الحكم المطلق
الفرع الأول : نظرية توماس هوبز1588 - 1679( )
جاءت هذه النظرية لتبرير سلطة الملك وضد الثورات الشعبية إذ أن هوبز كان من مؤيدي العرش الحاكم (من أنصار الحكم المطلق ) وتشتمل نظريته على العناصر الآتية:
أولا : المجتمع قبل العقد:
مجتمع فوضوي يغلب عليه قانون الغاب والأنانية والطمع وحب النفس لذلك أحس الأفراد بضرورة إقامة مجتمع منظم يخضعون له يحكمهم فيه حاكم يوفر لهم الاستقرار والأمان.
ثانيا : أطراف العقد:
هم أفراد المجتمع الذين يتنازلون عن حقوقهم للحاكم الذي لم يكن طرفا في العقد
ثالثا : آثار العقد:
يتنازل الأفراد دون شروط عن جميع حقوقهم الطبيعية للحاكم حتى يتجنبوا الاختلاف والتناحر فيما بينهم ليصبح الحاكم بذلك متمتعا بسلطة مطلقة عليهم جميع دون أن يكون ملتزما نحوهم بأي شيء لأنه لم يكن طرفا في العقد ولم يتنازل لهم عن أي حق من حقوقه.
وبحسب هوبز استبداد الحاكم أفضل بكثير من الفوضى، ولكنه يحمله مسؤولية توفير الرفاهية واحترام القوانين القضائية .
وهكذا يصل هوبز إلى تبرير النظام الملكي المطلق لأن الحاكم لم يكن طرفا في العقد وبالتالي لم يتعهد لهم بأي مطلب ومن ثم لا يخضع لأية مساءلة أو محاسبة .
الفرع الثاني: نقد النظرية
يؤخذ على هوبز الخلط بين الدولة والحكومة نظرا لأنه يطالب بمنح السيادة للحاكم، وهذا يعني أن السلطة في يد الحاكم وليست للدولة التي تفوضها له وبالتالي فإن تغير الحاكم يعني فناء الدولة وعودة المجتمع إلى الفوضى السابقة.
المطلب الثاني: النظريات العقدية في ظل الحكم المقيد
الفرع الأول : نظرية جون لوك 1682- 1700 ( )
وقد كان من دعاة تقييد السلطة المطلقة للملوك (من أنصارالحكم المقيد ) ومن دعاة ازدهار الحريات وحمايتها عكس هوبز وتتلخص نظريته في ما يلي:
أولا : المجتمع قبل العقد: خلافا لتوماس هوبز يذهب جون لوك إلى القول بأن الحياة البدائية التي كان يعيشها الإنسان تميزت بالحرية، العدل، السلام و المساواة في ظل قانون طبيعي لا يفرق بين الناس، غير أنهم فكروا في الانتقال لحياة أفضل بإنشاء مجتمع يتميز بحسن التنظيم و تحديد الحريات و الحقوق بواسطة هيئة تقوم بتنفيذ القانون الطبيعي و تحميهم، جعلتهم يقررون إبرام عقد نتج عنه ظهور سلطة تضع على عاتقها الالتزام بتحقيق العدالة، فالرضا إذا هو أساس قيام الدولة عند جون لوك.
ثانيا: أطراف العقد : أطراف العقد هم المجتمع من جهة والحاكم من جهة أخرى والعقد يتم عبر مرحلتين: حيث في الأولى يتفق أفراد المجتمع على إنشاء مجتمع سياسي ثم بين الشعب السياسي والسلطة التي تتولى الحكم في المرحلة الثانية.
ثالثا : آثار العقد: إن الأفراد عند إبرامهم لهذا الاتفاق لم يتنازلوا عن كافة حقوقهم وإنما بالقدر الضروري لإقامة الدولة و تعيين السلطة بما يكفل حماية حقوق و حريات الأفراد، و في مقابل تنازلهم الجزئي عن حرياتهم و حقوقهم فإن الحاكم مطالب بتسطير جهوده لتحقيق الصالح العام و احترام الحقوق الخاصة و في حالة إخلاله بهذه الالتزامات يعطي للطرف الآخر في العقد حق فصله، وإن حاول المقاومة فإن استعمال القوة في مواجهته يصبح حقا مشروعا، فالعقد عند جون لوك هو عقد جماعي يتحول بموجبه المجتمع من جماعة أشخاص إلى جماعة سياسية لإقامة حكومة تستمد سلطتها من موافقة الأغلبية..
الفرع الثاني: نظرية جون جاك روسو 1778- 1722( )
أولا : المجتمع قبل العقد:يتفق روسو مع جون لوك بأن حياة الأفراد كانت في حالة سعادة و لم تكن شرا كما قال هوبز وأن الأفراد كانوا يتمتعون بحقوقهم و حرياتهم طبقا للقانون الطبيعي، غير أنه باكتشاف الزراعة و الآلة و الصناعة و الاختراعات ظهرت الملكية الفردية، فبدأت تبرز فوارق بين الأفراد فانهارت المساواة و تحولت حياتهم إلى آلام و ازدادت على أثرها النزاعات و الخلافات بسبب التنافس على الثورة مما دفع الأغنياء إلى البحث عن وسيلة تكفل لهم إرضاء الفقراء من أجل إقامة مجتمع أساسه العقد الذي يبرم بينهم للمحافظة على أموالهم و القضاء على الحروب و الحصول على الحقوق المدنية ،أي يتنازل كل فرد عن حقوقه للجماعة وبذلك ظهرت الدولة.
ثانيا : أطراف العقد:يقول روسو بأن الأفراد يتفقون على إنشاء نوع من الاتحاد فيما بينهم ليحميهم وأملاكهم .
ثالثا : آثار العقد : من النتائج المترتبة عن هذا العقد أن الأفراد متساوون في الحقوق و الحريات و تصبح الجماعة المستقلة عنهم تتمتع بالسيادة الكاملة و السلطة المطلقة كونها تعبر عن إرادة الأغلبية في المجتمع، وأن إعلاء إرادتها على إرادة الأقلية لا تمثل اعتداء حسب روسو على إرادة الأقلية لأنها تتمتع بنفس الحقوق و الحريات التي تتمتع بها الأغلبية.
الفرع الثالث: نقد النظريتين
ويعاب على هاتين النظريتين بأنهما تعبران عن فكرة خيالية لا يمكن تصورها و لم يثبت وجودها تاريخيا كما أنهما تقومان على فكرة افتراضية غير سليمة، فالتاريخ لم يثبت بأنه وقع اجتماع بين الناس أبرموا من خلاله عقدا فيما بينهم لإقامة مجتمع سياسي.
المبحث الثاني: النظرية العقدية عند المسلمين
المطلب الأول: فكرة العقد في الإسلام
الفرع الأول: المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام
لم يكن للعرب قبل الإسلام دولة تجمعهم، بل كان المجتمع يتكون من عدد من القبائل المتناحرة، إذ كانت الحروب مستمرة فيما بينها لأسباب تافهة كالتسابق على موارد الماء وأماكن الرعي، والتنافس على الشرف والرئاسة.
الفرع الثاني: مضمون فكرة العقد في الإسلام
أما الإسلام وهو الشريعة الخالدة التي أتت لتنظيم علاقات الإنسان بربه وعلاقاته بغيره من الناس و إلى جانب تنظيم علاقات الناس فيما بينهم قام كذلك بتنظيم علاقاتهم بالدولة أي علاقة المحكومين بالحاكمين وهذا الجانب هو الذي يهمنا الآن وهو الذي يخص نظام الحكم ولا يهمنا من هذا النظام إلا الحقوق التي يملكها المحكومون إزاء الحاكمين بصفة خاصة. والإسلام في نظام الحكم لم يقم بتعيين الشكل الذي يمكن أن تقود به السلطة الدولة وإنما اكتفى ببيان ضرورة حصول العدل والمساواة والشورى واعتبر هذه بمثابة موجهات عامة وأصول ثابتة راسخة لا تتغير ولا تتبدل أما الشكل فهو لم يتناوله لأنه عرضة للتبديل والتغيير ويتأثر بعامل الزمان والمكان.( )
و يرى الكثير من المفكرين أن الإسلام يعد هو أول من أسس الدولة بشكل عقد حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهاجر الى المدينة ولم يؤسس فيها دولة إسلامية إلا بعد إبرام اتفاق بينه وبين الأنصار على احتضانهم الرسول(ص) ونصرته والعمل على إقامة النظام الجديد الذي يدعوا إليه وهذا من خلال بيعة العقبة الثانية وبذلك أصبحت البيعة أساس لقيام الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء ومن بعدهم .
والبيعة عبارة عن عقد يتم بين الطرفين وهم الأمة التي تعتبر مصدر السلطات من جهة والممثلة في أهل الحل والعقد والحاكم من جهة أخرى والبيعة عقد صحيح يقوم على الرضا المتبادل ويؤكد من جهة أن السلطة والسيادة لله،وما الحاكم إلا خليفة في الأرض.
المطلب الثاني: المقارنة بين العقد عند المسلمين و الأوروبيين
الفرع الأول : أوجه الشبه
تتفق هذه النظريات و الأفكار فيما بينها على وجود تطابق في الآراء بين الأفراد لإقامة النظام في المجتمع و ترى أن أساس السلطة مصدرها الشعب فسلطة الحاكم لن تكون مشروعة إلا إذا كان مصدرها رضا الأفراد.
كما اتفق هؤلاء المفكرون في نظرياتهم حول الأثر التعاقدي للدولة (قيامها على فكرة العقد)، وأن الأفراد قد انتقلوا من الحياة البدائية التي كانوا يعيشونها إلى حياة الجماعة السياسية المنظمة الموجب العقد.
الفرع الثاني : أوجه الإختلاف
اختلف هؤلاء المفكرون فيما بينهم حول حالة النظرة السابقة على العقد(المجتمع قبل العقد )، وعلى تحديد أطراف العقد وبالتالي النتائج المترتبة عن عملية التعاقد.
و بخلاف فكرة العقد في الإسلام التي ثبت قابليتها للتطبيق على أرض الواقع عبر شواهد تاريخية لا تخفى على أحد و بالخصوص في القرون الأولى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد تعرضت النظريات العقدية الأخرى إلى جملة من الانتقادات نلخصها في ما يلي :
1- لم يجتمع الأفراد بالصورة المذكورة في هذه النظريات مما جعلها مجرد نظريات افتراضية.
2- لابد من وجود قانون يحمي العقد ويكون سابق له، وهذا يعني وجود مجتمع منظم قبل وجود العقد.
3- لا يمكن للأفراد التنازل عن حقوقهم الطبيعية.
4- استحالة اتفاق جميع الأطراف حول هذا العقد.
5-استحالة ديمومة العقد.
6- أن النظرية من أسسها خاطئة إذا أنها تفرض أن الإنسان كان يعيش منفردا منعزلا قبل قيام الجماعة في حين أن الإنسان ما عاش إلا بالجماعة وفي الجماعة وهو اجتماعي بطبعه.
7- أنها نظرية فلسفية تستند إلى الافتراض وهي فكرة خيالية وليست حقيقية علمية فالتاريخ لا يبرهن على صوابها إذ لم يبين لنا متى اجتمع الناس وتعاقدوا على إقامة الدولة ثم أن فكرة العقد بعيدة عن خيال الإنسان البدائي.
و كخلاصة لما سبق يبقى لنظرية العقد الاجتماعي الفضل في تقديم أساس ديمقراطي لقيام السلطة و القضاء على الاستبداد و اعتبار رضا المحكومين أساسا للخضوع لهذه السلطة. ( )
الخاتمــة:
لقد
عرف المسلمون العدل والمساواة والشورى في حياتهم وقدسوا مبدأ الفصل بين
السلطات ولا أدل على ذلك بالنسبة لهذا المبدأ ما قاله عمر بن عبد العزيز في
هذا الموضوع :«أيها الناس انه لا كتاب بعد القرآن ولا نبي بعد محمد ألا
واني لست بقاض ولكني منفذ ولست بمبتدئ ولكني متبع». وعلى هذا الأساس فان
الشعب هو صاحب السيادة وهو مالكها ولكن بما انه لا يملك أن يباشرها بنفسه
بل لابد من أن يوكل عنه غيره ليباشرها وهذا الوكيل هو الإمام وهو يختار عن
طريق البيعة وهي تعاقد فيما بين المسلمين وولي الأمر فأطراف العقد هما
الشعب والإمام يلتزم الإمام باحترام الوحي الإلهي في إطاره العام وتحقيق
مصالح الأمة وأهدافها البعيدة في الرقي والتقدم وتلتزم الأمة بإطاعة ولي
الأمر والخضوع له فيما يصدره من أوامر وقرارات متى التزم الوحي الإلهي
وحافظ على مبدأ المشروعية أما إن لم يلتزم فإنها تكون في حل من أمره لأنه
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهنا يجوز لها خلعه وتغييره بسواه وعليه
فالإمام ليس إلا واحد من الرعية وعضوا من أعضائها وهو يستشيرها ويسترشد بها
تلجا إليه وتلوذ به وكل واحد منهما يعتبر سندا للأخر وقد عبر عن الفكرة
اصدق تعبير الخليفة الأول حيث قال:«إن أحسنت فأعينوني، وان أسئت فقوموني».
فهل يمكن أن يستدل من هذا على أن المسلمين عرفوا العقد الاجتماعي كما عرفه
الغربيون و تجلى في نظام البيعة. الجواب لا إن الإسلام لم يعرف العقد
الاجتماعي كما عرفه الغربيون ذاك أن نظرية البيعة هي نظرية فريدة من نوعها
ونظرية سابقة على نظرية العقد الاجتماعي ولم يكن الإسلام بأمس الحاجة إلى
نظرية العقد لأنها نظرية وجدت عند بعض الفلاسفة الغربيين لتبرير الحيرة
والإيمان بان هناك حقوقا مقدسة يجب احترامها وعدم جواز المساس بها خصوصا
وأنها وجدت في زمن كان استبداد الحاكم بالرعية شديدا ولم يكن يعترف للأفراد
والجماعات بحق ، فابتكرت فكرة العقد لبيان أن هناك حقوقا لا يمكن المساس
بها لذا فهي حيلة أو خديعة وكذب للحد من الاستبداد، لهذا قيل عنها أنها
أكذوبة. فلو أن الغربيين كانوا يعيشون في حرية وكانت حقوقهم محترمة وكانت
صلاتهم بالحاكمين قائمة على أساس الاحترام المتبادل لما كانوا بحاجة إلى
هذه الوسيلة الكاذبة ليرتبوا عليها آثارا قانونية.( )
قائمة المصادر و المراجع:
-
الأمين شريط، الوجيز في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية المقارنة،
الطبعة الثانية، ديوان المطبوعات الجامعية، بن عكنون ،الجزائر، 2002
- أحمد طعيبة، محاضرة في القانون الدستوري ، معهد العلوم القانونية والإدارية، جامعو زيان عاشور، الجلفة، 2007 2008 /
شاركنا بتعليقك...