بقلم القاضي بشار الجبوري
تعقيباً على ما كتبه القاضي الفاضل الأستاذ سالم روضان الموسوي تحت عنوان ((عقد إيجار دور السكن المبنية بعد عام 1998 بين القانون المدني وقانون إيجار العقار)). ومع إحترامي الشديد لوجهة النظر التي تبناها الزميل المحترم، فإني أبين الآتي:
تنص الفقرة (2) من المادة الثالثة من قانون ايجار العقار على أنه: (( تستثنى من حكم الفقرة (1) من هذه المادة العقارات المعدة للسكنى المبينة حديثاً واكتمل بناؤها في 1/1/1998 أو بعده، وتكون مدة نفاذ عقد الايجار فيها وفق اتفاق الطرفين )).
ويتبين من هذا النص أن استثناء عقود ايجار العقارات المبينة فيه من الامتداد القانوني لعقد الايجار مقيد بتوافر شروط ثلاث هي:
أولاً – ان يكون العقار معداً للسكنى.
ثانيا: ان يكون العقار مبنياً حديثاً .
ثالثاً : أن يكون بناء العقار قد اكتمل في 1/ 1/ 1998 م أو بعده.
وتنص المادة السابعة عشرة من قانون ايجار العقار على أنه: (( لا يجوز للمؤجر ان يطلب تخلية العقار الخاضع لأحكام القانون إلا لأحد الاسباب الاتية... ))
ويتبين من النص المتقدم، ان اسباب التخلية فيه واردة على سبيل الحصر، ولا يجوز اضافة سبب جديد للتخلية الى تلك الاسباب، واذا ما استعرضنا تلك الاسباب لا نجد بينها سبباً يجيز تخلية العقارات المعدة للسكنى المبنية حديثاً واكتمل بناؤها في 1/ 1/ 1998 م أو بعده، لانتهاء ايجارها بانقضاء المدة، لعدم ورود هذا السبب ضمن الاسباب الواردة فيه على سبيل الحصر.
وعليه فلا يتصور في ضوء التفسير اللفظي للنص المذكور إمكان تخلية هذه العقارات لهذا السبب، على الرغم من استثنائها من الامتداد القانوني لعقد الايجار، عملاً بظاهر النص المتقدم ومعناه الأولي المستفاد من عبارته.
ومثل هذا التفسير يقود الى القول بتعارض النص المذكور مع ما ورد في الفقرة (2) من المادة الثالثة من قانون ايجار العقار، التي استثنت هذه العقارات من الامتداد القانوني، والتي تنص في الشق الاخير منها على أنه: (( ... تكون مدة نفاذ عقد الايجار فيها وفق اتفاق الطرفين )).
إذ يترتب على هذا النص انتهاء ايجار تلك العقارات بانقضاء المدة، وعدم جواز ابقاء المستأجر المأجور تحت يده، إذ يصبح هذا البقاء دون حق، مالم يتم تجديد عقد الايجار تجديداً صريحاً او ضمنياً.
ويترتب على التعارض الظاهري في تلك النصوص نتيجة القصور في التعبير في بعضها وضعف صياغتها التشريعية، عدم امكان العمل بهذه النصوص معاً، ووجوب رفع هذا التعارض بأحد الضوابط التي وضعها الاصوليون لإزالة التعارض في النصوص، وهي النسخ او الترجيح او الجمع والتوفيق.
لذا يتعين الاستعانة بقواعد أصول الفقه في تفسير النصوص وطرق دلالة اللفظ على المعنى، وقواعد الترجيح ورفع التعارض بين النصوص، وكيفية استنباط الاحكام من النصوص.
ويلاحظ في هذا الشأن عدم امكانية اعمال ضوابط النسخ وعد أحد النصين المذكورين ناسخاً للآخر، لأن النصين متعاصران، وردا في القانون ذاته، وتاريخ نفادهما واحد، وليسا متفاوتين في الزمن.
كما لا يمكن اعمال ضوابط الترجيح، وترجيح أحد النصين المذكورين على الاخر بمرجح، فلا يمكن مثلاً العمل بقاعدة تدرج القوانين، لأن كلا النصين وردا في القانون ذاته لا في قوانين غير متساوية في القوة، كما لا يمكن ترجيح أحد النصين على الاخر وفقاً لوضوح الفاظهما او ابهامها ودرجاتها، لأن الفاظ كلا النصين تدل على معناها بذات الدرجة من الوضوح.
أما ضوابط الجمع والتوفيق إذا تعارض النصان ظاهراً، فتتم بعدة طرق منها عد أحد النصين مخصصا لعموم الآخر، إذا كان احد النصين عاماً والآخر خاصاً، أو عد أحد النصين مقيداً لإطلاق الآخر، اذا كان أحد النصين مطلقاً والآخر مقيداً، فيعمل بالخاص في موضعه، وبالعام فيما عداه، ويعمل بالمقيد في موضعه وبالمطلق فيما عداه.
وهذا الطريق لا يمكن سلوكه في تفسير النصين، من حيث العموم والخصوص، لان كلا من النصين نص خاص، كما لا يمكن الاخذ به من حيث الاطلاق والتقييد، لان حمل نص الفقرة (2) من المادة الثالثة وعده مقيداً للإطلاق الوارد في المادة السابعة عشرة من قانون ايجار العقار- وذلك بان يقصر النص الاخير على بعض العقارات الخاضعة لقانون ايجار العقار باستثناء العقارات المعدة للسكنى المبنية حديثا واكتمل بناؤها في 1/1/1998م او بعده – يترتب عليه عدم جواز تخلية العقارات المعدة للسكنى المبينة حديثا واكتمل بناؤها في 1/1/1998م او بعده لأي من الاسباب الواردة في المادة السابعة عشرة، ومثل هذا التفسير يؤدي الى نتائج غير منطقية تزيد القانون نقصاً لخلوه من نص يحدد اسباب تخلية تلك العقارات، ويؤدي الى استبعاد واهمال تطبيق المادة السابعة عشرة من قانون ايجار العقار، على الرغم من توافر سبب من اسبابها او اكثر احياناً، خلافا لقاعدة اعمال الدليل اولى من اهماله، والتي تعد المبرر ابتداءً لاعتماد ضوابط الجمع والتوفيق بين النصوص عند تفسيرها.
مما تقدم يتضح ان نص المادة السابعة عشرة من قانون ايجار العقار اعتراه قصور في التعبير، اذ جاء مقتضباً، ولم يتضمن كل ما يجب ذكره من قيود لازمة لتطبيقه، وهو ما يؤدي بنا الى القول بعدم جواز تفسيره تفسيراً حرفياً وفقا لما يفهم من عبارته، او ما يسمى المعنى الحرفي للنص.
إذ يجب العمل بما يفهم من عبارة النص الشرعي- او القانوني- او بما يفهم من عبارته، او اشارته، او دلالته، او اقتضائه، لان كل ما يفهم من النص بطريق من هذه الطرق الاربعة هو من مدلولات النص، والنص حجة عليه.
والذي يهمنا من هذه الدلالات في موضوعنا هذا هو دلالة الاقتضاء التي يتعين الاستعانة بها والاعتماد عليها في تفسير نص المادة (السابعة عشرة) من قانون ايجار العقار، واستنباط الحكم منه.
والمراد بدلالة الاقتضاء دلالة اللفظ على مسكوت عنه يتوقف دق الكلام وصحته واستقامته على ذلك المسكوت، أي على تقديره في الكلام. ويفترض هذا ان صيغة النص ليس فيها لفظ يدل عليه، ولكن صحة هذه الصيغة واستقامة معناها تقتضي هذا اللفظ.
اذ قد يترك المشرع كلمة او عبارة في نص تقتضي دلالته على المعنى المراد رعايتها وعدها جزءً من النص، ورعايتها تكون بمثابة الشرط لتطبيق منطوق النص.
فعبارة نص المادة السابعة عشرة من قانون ايجار العقار لم تتضمن قيداً لازماً لتطبيقها، نتيجة عدم اخذ القائم بإعداد مشروع قانون التعديل، بنظر الاعتبار اهمية هذا القيد او نسيانه، وعليه يتعين تفسير هذا النص بمراعاة القواعد الاصولية اللغوية التي قررها علماء اللغة في دلالات النصوص، وبطريق دلالة الاقتضاء تحديداً.
اذ ان عبارة النص المذكور تقتضي قيداً زائداً يضاف الى النص عند استنباط الحكم منه لضرورة صحته، وهذا القيد هو ان يكون الايجار سارياً، وتكون قراءة مقدمة النص المذكور- عند تفسيره- كالآتي : (( لا يجوز للمؤجر ان يطلب تخلية العقار الخاضع لأحكام القانون، اثناء سريان الايجار –أي اثناء مدة العقد او الامتداد القانوني له- الا لاحد الاسباب الاتية ... )).
وعلى ذلك تدخل في منطوق النص، العقارات المعدة للسكنى المبنية حديثاً واكتمل بناؤها في 1/1/1998م او بعده، اثناء مدة ايجارها، ويجوز للمؤجر أن يطلب تخليتها لأحد الاسباب الواردة فيه، أما إذا انتهى ايجارها بإنقضاء مدته، فلا محل لتطبيق النص اعلاه عليها، إلا إذا تجدد الايجار، ففي هذه الحالة يقوم عقد ايجار جديد ويسري النص المذكور على محله طوال مدة العقد الجديد.
كما تدخل في منطوق النص المذكور بقية العقارات الخاضعة لأحكام قانون ايجار العقار في اثناء مدة العقد وفي اثناء الامتداد القانوني له، لسريان ايجارها في كلتا الحالتين.
ويمكن القول في هذا الشأن بان اضافة القيد المذكور لا تعد خروجاً على منطوق النص المذكور، للأسباب والمبررات الاتية:
1- وجوب العمل بالنصين معا، أي الفقرة (2) من المادة الثالثة والمادة السابعة عشرة من قانون ايجار العقار، لعدم إمكان ترجيح أحدهما على الاخر او عد أحدهما ناسخاً للآخر، أو عد أحدهما مخصصا لعموم الاخر، او مقيداً لإطلاق الآخر، للأسباب المار ذكرها، مما يتطلب التوفيق بينهما، والتسليم الى القول بوجود نقص في عبارة نص المادة السابعة عشرة من قانون ايجار العقار.
2- وجوب الرجوع عند قيام التعارض الظاهري بين النصوص، الى قاعدة النصوص القانونية تفسر بعضها ببعض، لأن من المسلم به في نطاق التفسير، وجوب النظر الى اي قاعدة قانونية باعتبارها جزءً من كل كامل هو التشريع، فينبغي ان تفهم عبارات التشريع في مجموعها دون الاكتفاء بفهم كل عبارة على حدة، فالنصوص التشريعية يكمل بعضها بعضاً، ولذلك ينبغي التقريب بين النصوص المبعثرة المتصدية لحكم موضوع واحد.
3- ان دلالة النصوص على الاحكام لا تفهم من عبارة النص فقط، فدلالة النص على حكم شيء مذكور فيه قد تكون عن طريق عبارة النص، أو عن طريق اشارة النص، أو عن طريق دلالة النص أو ما يسمى مفهوم الموافقة أو عن طريق اقتضاء النص، وهذه كلها تسمى دلالة المنطوق، فكل معنى يفهم من النص بطريق من طرق هذه الدلالات يعد من مدلولات النص وثابتاً به، والنص دليلاً وحجة عليه، ولهذا تعد هذه الدلالات الاربع دلالة منطوق، أي منطوق النص وهي تقابل دلالة المفهوم أي مفهوم المخالفة.
وعلى ذلك فإن الاستعانة بدلالة الاقتضاء في تفسير النص المذكور لا يعد خروجاً على منطوق النص بل عملاً به.
واذ تبين لنا من التفسير المنطقي للمادة السابعة عشرة من قانون ايجار العقار، أنه لا محل لسريانها على العقارات المعدة للسكنى المبينة حديثاً المستثناة من الامتداد القانوني بعد انتهاء ايجارها بانقضاء المدة، لأن الطرفين لن يكونا في علاقة تعاقدية لانتهاء الايجار بانقضاء المدة، كما أنهما لن يكونا في حالة امتداد قانوني لاستثناء تلك العقارات من الامتداد القانوني لعقد الايجار.
وعليه فيكون قانون ايجار العقار قد خلا من بيان سبب يجيز طلب تخلية تلك العقارات عند انتهاء ايجارها بانقضاء المدة، ولذا يتعين الرجوع الى نصوص القانون المدني والاستناد اليها في الزام المستأجر برد المأجور.
اذ تنص المادة (771/1) من القانون المدني على أنه: (( إذا انقضى عقد الايجار، وجب على المستأجر ان يخلي المأجور في المكان الذي تسلمه فيه، إذا لم يحدد الاتفاق او العرف مكاناً آخراً ))، إذ يلتزم المستأجر بموجب النص المتقدم برد العين المؤجرة وملحقاتها، حال انتهاء عقد الايجار لانقضاء مدته او لأي سبب آخر.
فالقانون المدني هو القانون العام الذي ينظم عقد الايجار، اما قانون ايجار العقار فهو قانون خاص، والنسبة بين الاخير والاول هي نسبة الخاص الى العام، وعلى ذلك يتعين الرجوع الى القانون المدني وتطبيق نصوصه في كل مالم يرد به نص خاص في قانون ايجار العقار لأن التخصيص على وفق ما مسلم به لدى الاصوليين لا يخرج العام عن الاحتجاج به مطلقا في مستقبل الزمان، اذ يعمل بالخاص فيما ورد فيه، ويعمل بالعام فيما وراء ذلك.
شاركنا بتعليقك...